الاثنين، 21 ديسمبر 2015

نشأة مملكة ودّاي الإسلامية (1615 – 1909) وسلطنة المساليت


  1. اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الطاهر احمد محمد علي مشاهدة المشاركة

    نشأة مملكة ودّاي الإسلامية (1615 – 1909)
    مؤتمر الإسلام في إفريقيا / نوفمبر 2006م
    الكاتب: أ. الصادق أحمد آدم
    مقدمة

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى اله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
    أما بعد ...
    فقد كانت الممالك الإسلامية في إفريقيا عامة وإفريقيا جنوب الصحراء خاصة ذات اثر بالغ الأهمية والتقدير في نشر الحضارة الإسلامية ، فنشأت في هذه الممالك أنماط من القيم الإسلامية الحضارية في تدبير شؤون الممالك والحكم والإدارة على أنبل أسلوب لم تشهدها إفريقيا جنوب الصحراء قبل دخول الإسلام إليها.
    فكان المسلمون في إفريقيا جنوب الصحراء هم الجماعات المستنيرة المتحضرة قبل مجيء الاستعمار الأوروبي الغاشم المغتصب لأراضي الغير في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي .
    فبدأ انتشار الإسلام في ربوع القارة الإفريقية منذ القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) ومن ثمًّ دخل الإسلام إلى الممالك الإفريقية الموجودة في غرب ووسط وشرق إفريقيا فتأثرت به وتحولت من ممالك غير إسلامية إلى ممالك إسلامية وذلك منذ القرن الحادي عشر الميلادي ، وبمجيء القرن السادس عشر الميلادي ازدهرت حياتها الإسلامية وأصبح حواضر التعليم في القارة في كل من تمبكتو وجنا وسوكوتو في الغرب وهرر وسوفالا وممبسة وزنجبار وزبلع في الشرق، وكانم وبرنو وودّاي وباقرمي في الوسط تجتذب الطلاب من أرجاء القارة ويطوف عليها العلماء من أنحاء العالم الإسلامي، وتوثقت الصلة بين البلاد الإفريقية والحواضر الإسلامية في الحجاز والمغرب ومصر والسودان وتونس وغيرها.
    فكان خريجو هذه المراكز الحضارية من المسلمين هم قيادات المجتمعات الإفريقية ومثقفوها الذين تعتمد عليهم الممالك في تسيير شؤونها الداخلية والخارجية وبعون الله سبحانه وتعالى وعلى أيديهم انتشرت دعوة الإسلام وامتد ت تأثيرها الحضاري في أنحاء القارة فصارت اللغة العربية هي اللغة الرسمية في العديد من الممالك الإسلامية فكتب العديد من هذه الممالك لغاتها بالحرف العربي مثل السواحيلية والصومالية والأمهرية ولغة الهوسا والفولاني والولوف وسنغي وبرامبا (لغة الودّاي) وغيرهم.
    ومن اكبر هذه الممالك وأبعدها أثرا في نشر الإسلام وحضارته في إفريقيا جنوب الصحراء هي مملكة ودّاي التي أقامها العالم المجدد عبدالكريم بن جامع في حوالي 1615 وامتدت إلى أن سقطت على يد المحتل الغاشم 1909م .
    لذا كان اهتمامي وتركيزي على هذا البحث على هذه المملكة العظيمة . لقد ظلت مملكة ودّاي قائمة على خدمة الحضارة الإسلامية حيث أصبحت من اكبر المراكز الحضارية والدعوية في المنطقة خلال هذه الفترة .
    فتحدثت في هذا البحث المتواضع عن مملكة ودّاي الإسلامية 1915-1909م عن موقع المملكة ونشأتها ومدلول كلمة ودّاي وقبائلها ودخول الإسلام إليها والطرق التي سلكها الإسلام ثم من مظاهر الحضارة الإسلامية فيها وأخيرا أسباب تدهورها.
    فقد امتدت مملكة ودّاي الإسلامية حوالي ثلاث قرون فظلت متمسكة بالحضارة الإسلامية وقيمها ومبادئها إلى سقوطها على يد المستعمر الأوروبي 1909 الذي عمل جاهداً على طمث هويتها إلا انه فشل في ذلك فظلت المملكة متمسكة بالحضارة الإسلامية .

    الموقع:
    دار ودّاي عبارة عن منطقة سهلية واسعة تنحدر من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وتضم جبال منعزلة وبعض السلاسل الجبلية، وتقع معظمها في الشمال الشرقي والجنوب الشرقي من مدينة أبشة، فقد اختلف العديد من الباحثين حول تحديد حدودها في القرن التاسع عشر [1] .
    ذكر التونسي [2] بأن مساحتها تساوي مسيرة ثلاثين يوم طولا وأربع وعشرين يوم عرضا. تحدها من الشرق مملكة دارفور ومن الغرب مملكة باقرمي ومن الجنوب أراضي عباد الأصنام (الجناخرة) [3].
    وذكر الحارث بان حدود دولة ودّاي ما بين خطي الطول 15 – 23 درجة شرق خط غرينتش وخط 15 – 18 درجة شمال خط الاستواء وحددها نختقال بان تحدها من الشمال الصحراء ومن الجنوب بحر سلامات ومن الشرق مملكة دارفور ومن الغرب بحيرة فتري ، كما ذكر قائلا: بأن محمد وجد والمقدم قيرا تحدثا عن مساحة مملكة ودّاي ، فقال الأول في دائرة المعارف ( أن مملكة ودّاي شرق بحيرة تشاد مساحتها 172 ألف ميل مربع وأرضها خصبة ومياهها غزيرة يسكنها ثلاثة ملايين نسمة كلهم مسلمون إلا القليل ولغتهم زنجية ومحاصيلهم العاج وريش النعام. وحكمهم مطلقاً يحكمون بالدين الإسلامي الشريف [4].
    وذكر غوستاف نختقال [5] ( بان يبتدي أراضي ودّاي عند خد الطول 18,30 شرقاً وعلى العرض 13، وتمتد ودّاي لحوالي 4 درجات ، وعلى مستوى خط الطول الذي يمر بأبشة بين خطي الطول 21,20 شرقا يمتد حوالي 3 درجات ونصف ).
    أما موقعها بعد الاحتلال الفرنسي لتشاد وتحديد حدودها في الفتـــــــرة ما بين 14/1 – 1898م والى الفترة 31/12/1937م [6] أصبح حدود دولة ودّاي من الشمال والى الجنوب مسافة 700 كلم ومن الشرق وإلى الغرب 350 كلم [7] وتقع مملكة ودّاي في الجزء الشرقي لجمهورية تشاد تحدها من الشمال الإقليـــــــم الشمالـــــــــ ـــــــي (بركو انيدي تبستي) ومن الجنوب إقليم (سلامات) ومن الشرق (جمهورية السودان) ومن الغرب (شاري الأوسط ومديرية قيرا) [8].
    كما قال ( إن أراضي ودّاي بمجملها ليست محددة تحديداً واضحاً غير أن مساحتها قد تقدر بحوالي 3000 ميل مربع ( 63000 ميل انجليزي مربع ).

    النشأة:
    نشأة مملكة ودّاي الحديثة على أنقاض مملكة التنجر الوثنية في عهد ملكهم داوود المربين آخر ملك التنجر [9] .وعندما نرى أن التنجر ليسوا بالوثنيين بل كانوا قليلي التمسك بالدين الإسلامي الحنيف، وذلك لان أصل التنجر ينتمي إلى بني هلال الذين غزوا مراكش في القرن الحادي عشر الميلادي وعادوا بعد ذلك إلى تونس حين استقروا بها [10] .
    وفي عهد السلطان داوود المرين جاء الشيخ جامع [11] من جهة غرب السودان ، فقام بدعوة الناس إلى الإسلام وساعده في ذلك زواجه من قبيلة المبا [12] .
    فقد تزوج جامع من الوداويات وأنجبت له الوداوية ابنا سماه عبدالكريم وتزوج عبدالكريم بنت ملك التنجر داوود المرين وبذلك قلده الملك عدة مناصب قيادية هامة في المملكة، لكن سرعان ما نشب خلافا بينه وبين الملك لأسباب دينية وسياسية مما أدى ذلك إلى التجأ عبدالكريم والالتفاف حول أهل والدته الوداوية، الذين قاموا بالوقوف معه وتعظيمه والعطف عليه فوجد تأييدا كاملا من قبائل المبا حول أفكاره واتجاهاته بالإضافة إلى القبائل العربية والقبائل الأخرى المضطهدة من قبل الملك داوود المرين [13] .
    وبذلك العون والوقوف من قبيلة المبا والقبائل الأخرى معه استطاع أن يستولى على عرش المملكة ويطرد ملكها وملاحقته حتى موته في منطقة فتري [14] ، ومن ثم واصلت أسرة الملك المرحوم سيرها حتى منطقة ماندو [15] .
    بعد ذلك استطاع عبدالكريم أن يؤسس مملكته الكبرى المترامية الأطراف في عام 1615م [16]. وتعاقب على عرش المملكة التي أسسها عبدالكريم عشرون ملكا حتى سقوطها على يد المحتلين الغاصبين لأراضي الغير (الفرنسيين) في 1909م، وكان آخر ملك وقت ذلك هو السلطان أصيل بن العقيد المحمود بن السلطان شريف [17] .
    اتخذت مملكة ودّاي سابقا (كدمة) عاصمة لها ثم حولت إلى وارة . ومنها إلى مدينة أبشة 1856م في عهد السلطان محمد شريف 1835-1858م .
    فقد كانت مملكة ودّاي ضمن إحدى الولايات الأربعة لمملكة كانم وهي الولاية الشرقية لها، وبمرور الزمن تمكنت من الانفصال والتخلي عنها وأصبحت ذات سيادة ونفوذ فاقت بها مملكة كانم، بل استطاعت أن تسيطر على جزء من أراضيها في عهد السلطان جودة 1747 – 195) [18] .

    أصل الودّاي:
    هناك العديد من الآراء حول تسمية ودّاي، ذكر التونسي[19] بأنهم سناويين أي من قبيلة يقال لها أبو سنون ، وهي أعظم قبائل تلك المنطقة شرقا ورفعة، كما ذكر بأنهم من أصل عباسيين ، لأنه رأي في خاتم السلطان مكتوب فيه (السلطان محمد عبدالكريم بن السلطان صالح العباسي)، وان سلطان الودّاي وسلطان الفور وسلطان كردفان أولاد رجل واحد وصليح وصولون وسليمان إخوان وأنهم من عرب فزارة وكانوا أصحاب ثرة وخير وصلاح ، وقد سكن كل منهم إقليما.
    ويقول نختقال[20] : ( قبل زوال النجر بكثير هاجر هذا إلى الإقليم جامع أو أبوه مع أفراد عائلته ، قادمين من الشرق بالرغم من ادعاءات لبعض الباحثين الخاطئة ليس |لأسرة جامع أي رابط يربطها بالقمر المنحدرين من إفريقيا الوسطى إنما هم ينتسبون إلى الجعليين في شندي في وادي النيل شمال الخرطوم الذين ينتسبون إلى صالح بن عبدالله بن عباس، وبالتالي يقولون أنهم عباسيون شان أهالي شندي وأبو حراز ومدينة سنار قبل أن يدخل هؤلاء المهاجرون الذي سني فينا بعد ودّاي كادوا قد قضوا بعد الزمن في المنطقة المعروفة بدارفور واستوطنوا شرقي كوبى في جبال وودا وبعد ذلك في كابكابيا في جبل برقوا وقال نختقال بان حكام مملكة ودّاي الذين يفتخرون بلقب العباسيين لاشك إنهم يستحقونه. وذكر الدكتور محمد صالح أيوب [21] بان الودّاي ينتمون إلى السلالة العربية وذلك بدليل أن من يتعلم العربية منهم يتعلمها بسهولة ويسر وينطقها من غير تحريف ولا عجمة كأنها لغته ولذلك قرؤوا القرآن قراءة صحيحة دون لحن.
    ومما يدعم رأي نختقال ومحمد صالح أيوب، الوثيقة التي وقع عليها السلطان إبراهيم محمد عراضا العباسي سلطان دار ودّاي في الفترة ما بين ( 1977 – 2004م) وذكر فيه سلسلة من نسبته إلى الهاشمي بن عبدالمطلب الملحق رقم (1).
    ونحن نرى الباحث أن كل الآراء التي وردت حول أصل الودّاي ليس بها خلاف كبير يذكر ، بل جميعهم يؤكدون بانتسابهم إلى العباسيين كما أن اختلاقهم وامتزاجهم وانصهارهم من القبائل الزنجية لم تؤثر على ألسنتهم، بل الأثر في لون بشرتهم مما جعلهم متعددي الألوان منهم السمر والقمحيين، كما يظهر ذلك الأثر في طول قامتهم وقصر شعرهم وغير ذلك.
    واصل كلمة ودّاي أطلقها سكان فزان والصحراء، وسكان المنطقة يطلقون عليها دار صليح، والبرنو يطلقون عليها بدار برقو ولكن الاسم الأصلي هو موبا [22] .
    ويرى محمد صالح أيوب بان جماعة من الجوامعة والقمر بقيادة زعيمهم الذي يدعى وداعة قدمت إلى هذه المنطقة وظلت فترة من الزمن بين ملوك التنجر واستطاع حفيدهم عبدالكريم أن يقضي على حكم التنجر 1615م وان يؤسس دولة عرفت باسم دار ودّاي بدلا من دار وداعة وبدلا من دار مبا [23] .
    كما كانت تعرف بدار صليح نسبة إلى الرجل الصالح الذي جاء إلى دار أبو سنون ونشر الإسلام بين أفرادها من قبائل ملتقا ومدبا ومدلا ونصب سلطانا عليهم [24] .
    ويرى أبو نظيفة [25] بان كلمة ودّاي أصلها وضاي أي كثير الوضوء، كما تعني بأنها الرسل الذين يقومون بإرسال الرسائل والمكتبات إلى جبهاتها المطلوبة.
    ويعود كثرة الذكر للمسمى الواحد كدار ودّاي، دار صليح، دار برقو، دار مبا دار وادعة، دار مبا، ذلك دلالة على عظمة وقوة ومكانة ورفعة وسيطرة والتحكم في الأمور الخ.
    (للموضوع بقية في المشاركة التالية)

سلطنة بات النبهانية

  1. سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
    سلطنة بات النبهانية فى شرق إفريقيا عصر من الحضارة الاسلامية
    600 - 1278هـ = 1203 - 1861م
    (الحلقة الرابعة عشر والأخيرة)

    ظهرت هذه السلطنة على مسرح التاريخ نتيجة لهجرة عربية وفدت من «عُمان» إلى ساحل شرقى إفريقيا فى أوائل القرن السابع للهجرة الثالث عشر الميلادى؛ حيث كونت سلطنة إسلامية نبهانية فى «بات» تولت حكم شطر كبير من هذا الساحل، وظلت موجودة حتى عام (1278هـ = 1861م).
    والنباهنة قوم من العتيك من الأزد فى «عُمان» كانوا قد استولوا على مقاليد السلطة هناك بعد أن دبت الفوضى فى البلاد وانقسم العمانيون إلى طائفتين متخاصمتين، وحكم النباهنة عمان نحوًا من خمسمائة عام، حيث قامت دولتهم هناك عام (500هـ = 1106م) أو عام (506هـ = 1112م) واستمرت حتى نهاية القرن العاشر الهجرى عندما قامت دولة اليعاربة فى عُمان عام (1024هـ = 1615م).

    ويبدو أن الدولة النبهانية فى عمان قد مرت بأطوار من القوة والضعف بسبب الصراع الداخلى على الحكم، وكان الطور الأول يشمل مدة قرن من الزمان والذى انتهى بهجرة أحد ملوك النباهنة، وهو على أرجح الأقوال «سليمان ابن سليمان بن مظفر النبهانى» إلى ساحل شرقى إفريقيا فى عام (600 - 611هـ) واستقر هو وأتباعه فى مدينة «بات» التى تقع فى «أرخبيل» لامو (فى كينيا الآن).


    وأقاموا سلطنة هناك وحكموا جزءًا كبيرًا من الساحل متخذين من «بات» مقرا لسلطنتهم، وذلك بعد أن استطاع أول سلطان لهم هناك، وهو «سليمان بن سليمان بن مظفر النبهانى»، أن يتزوج أميرة سواحيلية، ليست فارسية، هى ابنة «إسحاق» حاكم «بات» في ذلك الحين، وعن طريق زوجته ورث الملك، كما يقال: إن والدها تنازل له


    عن الحكم فأصبح الحاكم الشرعى لبات، ومن ثم نقل بلاطه من عُمان إلى شرق إفريقيا.


    وقد نمت هذه السلطنة واتسعت فى عهد أبنائه وأحفاده، ففي عهد السلطان «محمد الثانى بن أحمد» (690 - 732هـ = 1291 - 1331م) توسعت السلطنة شمالا بعد حملات ناجحة قام بها هذا السلطان أخضع فيها كل المدن الساحلية التى تقع شمالى «بات» حتى «مقديشيو» وعين حاكمًا لكل منها.


    وفى عهد ابنه السلطان «عمر الأول» (732 - 760هـ = 1331 - 1358م)،توسعت السلطنة جنوبًا؛ حيث أخضع المدن الساحلية بما فيها «كلوة»، ووصل إلى جزر «كيرمبا» جنوب رأس «دلجادو»، وخضعت له كل هذه المنطقة ماعدا جزيرة «زنجبار» التى لم تكن في ذلك الوقت قطرًا مهما بدرجة تجذب انتباهه إليها. كذلك فإن حكام «مالندى» أتوا إلى «بات» ليعطوا ولاءهم لسلطانها، ودخلت أيضًا مدينة «ممبسة» والمستوطنات القريبة منها ضمن منطقة نفوذه، وهكذا أصبح السلطان «عمر بن أحمد» فى غاية القوة والنفوذ بعد أن أصبحت جميع المدن الساحلية تحت سيطرته. 


    وقد استمرت سيطرة النباهنة على هذه المناطق وكان لهم في كل مدينة خضعت لهم عامل أو قاضٍ يعرف باسم «ماجومب» بمعنى الخاضع لليمب أى للقصر الملكى فى «بات»، وكانت دار الشورى فى «بات» مقرا للحكومة المركزية التي كانت تحكم كل البلاد التي خضعت لهؤلاء السلاطين الذين اتخذوا اللقب السواحيلى «بوانا فومادى»، أو «فومولوتى» ويعنى الملك أو السلطان.


    وقد تميزت سلطنة «بات» بنظم إدارية وتقاليد سياسية واضحة، وانفردت بتقاليد جديدة فى الملاءمة بين الضرائب وبين النشاط الاقتصادي للأهالي، إذ فرضت ضريبة إنتاج لا يتعدى مقدارها 10%، ذلك أن الدولة كانت تتقاضى وسقين أو حملين من كل عشرين وسقًا تنتجها كل جماعة مشتغلة بالزراعة، وهي الضريبة المعروفة بالعشور فى الفقه الإسلامى، كما دخلت الزراعة فى بقاع كثيرة من الساحل الإفريقى فى فترة الحكم النبهاني، وظهر كثير من النباتات التي زرعها العرب هناك مثل القرنفل وقصب السكر، كما اهتموا بالرعي وتربية الماشية والأغنام وأدخلوا تربية الإبل إلى هذه المناطق.


    وقد نشطت الحركة التجارية في عهد ازدهار هذه السلطنة إلى حد كبير، وتوافد على الساحل التجار العرب من عُمان وغيرها، وكذلك تجار الهند المسلمون، وقد عمل هؤلاء التجار بنقل الحاصلات المتوافرة فى شرق إفريقيا إلى البلدان المطلة على المحيط الهندى، وإلى الأسواق العربية فى مصر والشام والعراق، فأصبحت الدولة على جانب كبير من الثراء.


    وقد نتج عن هذا الثراء تطور حضارى كبير، فقد أنشأ أهل «بات» منازل كبيرة واسعة، وضعوا فيها لمبات نحاسية جميلة، كما صنعوا سلالم أو درجات مزينة بالفضة يتسلقونها أو يصعدون عليها إلى فرشهم أو سُررهم، كما صنعوا سلاسل فضية تزين بها الرقاب، وزينوا أعمدة المنازل بمسامير كبيرة من الفضة الخالصة، وبمسامير من الذهب على قمتها. وقد تجلت مظاهر هذه الحضارة العربية أيضًا في المباني المعمارية وتخطيط المدن وزخارف الأبواب والنوافذ، كما أدخل العرب فن النقش والحفر والنحت وعقود البناء العالية والفسيفساء المتناسقة مع الرخام الملون.


    وفي مجال الثقافة واللغة والعلوم والفنون ظهر فى تلك الفترة ما يعرف باللغة السواحيلية، وهى الفترة التى كانت فيها سلطنة «بات» النبهانية صاحبة السيطرة والنفوذ على معظم أجزاء الساحل الشرقي لإفريقيا كما سبق القول، مما أدى إلى وجود تأثير عربي قوي في اللغة السواحيلية حتى فى المناطق الجنوبية التى تقع في «تنجانيقا» و «زنجبار»، حيث ظهرت أفصح أنواع اللغة السواحيلية. 


    ونتيجة لذلك ظهرت نظرية تقول بأن الشعب السواحيلى ولغته نشأ كل منهما حول «لامو» حيث توجد «بات»، وأن المهاجرين العرب الذين أقاموا فى «لامو» وأنشئوا هذه الإمارة تزوجوا من نساء «البانتو» واضطروا إلى استخدام عدد من الكلمات البانتوية بحكم معيشتهم اليومية مع زوجاتهم، ونشأ أولاد «مولَّدون» أى نصف عرب 
    ونصف بانتو، مزجوا بين اللغة العربية لغة آبائهم، وبين لغة البانتو لغة أمهاتهم، ومع استمرار التزاوج والاختلاط والمصاهرة تكوَّن الشعب السواحيلى وظهرت اللغة السواحيلية التى أصبحت لغة التجارة ولغة الحياة اليومية، وسرعان ما انتشرت هذه اللغة فى شرق ووسط إفريقيا نظرًا لغناها ومرونتها.

    ولاشك أن انتشار اللغة السواحيلية بين السكان الأصليين، بجانب اللغة العربية التى كانت لغة الطبقة العربية الحاكمة، كان له أثره الكبير فى نشر الإسلام وثقافته بين القبائل الإفريقية التى تقيم على الساحل، وتلك التى تقيم حول طرق القوافل الرئيسية مما جعل اللغة السواحيلية عاملا قويا فى توحيد السكان فى هذه المنطقة من القارة على اختلاف ألوانهم وتباين لغاتهم وتعدد قبائلهم وشعوبهم وأجناسهم، مما أدى إلى ظهور ثقافة مشتركة هى الثقافة السواحيلية التى غلبت عليها السمة العربية.


    ومن ثم فقد ساعد ذلك كثيرًا على انتشار الإسلام بين السكان المحليين وتطعيم ثقافتهم بعناصر عربية كثيرة، خاصة أن هذه اللغة كتبت بحروف عربية، واستمرت كذلك حتى جاء الاستعمار الأوربي الحديث وحوَّلها إلى الكتابة بالحروف اللاتينية بهدف إيجاد فاصل بين الثقافة الإسلامية والثقافة السواحيلية الحديثة. وعندما كانت 
    السواحيلية تكتب بحروف عربية دخلها كثير من الألفاظ العربية، وقد قدر عدد هذه الألفاظ بحوالى عشرين بالمائة من لغة التخاطب، وثلاثين بالمائة من السواحيلية المكتوبة، وخمسين بالمائة من لغة الشعر السواحيلى القديم، كما أن العرب غرسوا فى السواحيليين حب الأدب وفنون الشعر وخرج منهم شعراء وخطباء مطبوعون، وأصبح لهم أدب يعتزون به، وتكوَّن تراث كبير من الشعر والنثر السواحيلى مكتوب بالحروف العربية يشتمل على أعمال دينية ودنيوية، حتى إنهم عرفوا الشعر الغنائى (المشارى) منذ زمن بعيد يعود إلى ما قب لعام (545هـ = 1150م) ومازالوا ينظمونه، كما كتبوا شعر الملاحم المعروف باسم «التندى».

    كذلك مهدت اللغة السواحيلية السبيل أمام ظهور شعب جديد هو الشعب السواحيلى، وقد ساعد فى تكوين هذا الشعب ميل المستوطنين العرب إلى السلم وحبهم للسكون والاستقرار، فإن مستوطناتهم وإماراتهم وسلطناتهم لم تقم على الفتح بل على التجارة، والتجارة كما هو معروف لا تنشط إلا فى جو من السلام والأمن والعلاقات الطيبة، كما أن أخلاق الإفريقيين، وطباعهم كانت قريبة من طباع العرب الذين اعتاد الأفارقة رؤيتهم ورؤية أحفادهم يوغلون فى البلاد ويعملون بالتجارة وينشرون الإسلام والوئام بين الناس، فظهر التآلف واتحدت الأهواء والميول، وظهر ما يعرف بالشعب السواحيلى.


    وقد دعم «النباهنة» هذه الثقافة السواحيلية ذات الطابع الإسلامي وذلك بالعمل على نشر التعليم الدينى في المساجد والمدارس والكتاتيب التى وفد إليها كثير من الوطنيين الأفارقة ليحفظوا القرآن الكريم ويتعلموا الكتابة بالحروف العربية، بل ويتعلموا اللغة العربية ذاتها، حتى يتمكنوا من التعمق فى فهم عقيدة الإسلام وتراثه الديني واللغوى، وهكذا نرى أن سلطنة «بات» النبهانية قد فرضت نفوذها على معظم أنحاء الساحل الشرقى لإفريقيا، وأنشأت حضارة إسلامية تغلغلت جنوبًا وحملها المهاجرون والتجار العرب معهم لا إلى الساحل فقط، بل إلى الجزر المواجهة له مثل جزر «كلوة» و«زنجبار» و«بمبا» و«مافيا»، مكونة بذلك دولة كبيرة تعدد سلاطينها حتى بلغ عددهم اثنين وثلاثين سلطانًا، وقد ظلت هذه السلطنة قائمة رغم مهاجمة البرتغاليين لها، وبعد طردهم برز العُمانيون فى الميدان ووضعوا أيديهم على هذا الساحل بما فيه سلطنة «بات»، وظل الأمر على هذا النحو حتى جاء الإنجليز واحتلوا هذه البلاد قرب نهاية القرن التاسع عشر للميلاد، حتى تحررت وصارت تعرف اليوم باسم «جمهورية كينيا».

    المصدر

    الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي
    نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
    أعده وكتبه / هاني الهواري

سلطنة كلوة

  1. سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
    سلطنة كلوة الإسلامية عروس الشاطئ الإفريقى
    365 - 911هـ = 975 - 1505م
    (الحلقة الثالثة عشر)

    قامت هذه السلطنة نتيجة هجرة قدمت من «شيراز» بفارس، كان على رأسها «على بن حسن بن على» وأبناؤه الستة، حيث كانوا على متن سفنهم بما فيها من بضائع بقصد التجارة، ولما وصلوا إلى «جزيرة كلوة» التى تقع أمام الساحل الشرقى لإفريقيا، وهى ضمن دولة «تنزانيا» الآن، استقروا فيها منذ عام (365هـ = 975م)، ووفد عليهم كثير من العرب، وكان هؤلاء الوافدون يفضلون المعيشة في الجزر لسهولة الدفاع عنها والاعتصام بها إذا ما حاول الأهالي الساكنون فى البر الإفريقى الاعتداء عليهم، وعند وفاة «علي بن حسن بن على الشيرازى» كان نفوذه يمتد إلى مدينة «سوفالة» في الجنوب، وإلى «ممبسة» فى الشمال، وبعد وفاته اعتدى الأهالي على ابنه، واضطروه إلى الفرار إلى «زنجبار» عام (1020م) وبعد قليل جمع السلطان المطرود جنوده وعاد بهم إلى «كلوة» ودخلها مرة ثانية، وازدهرت المدينة خلال القرن التالى بسبب تجارة العاج والذهب الذى كان يُصدَّر من «سوفالة» التى تقع جنوب نهر «الزمبيرى»، أى جنوب «كلوة» وحرمت «مقديشيو» من تلك التجارة التى كانت تحصل عليها من «سوفالة»، وخاصة فى عهد السلطان «داود بن سليمان» سلطان «كلوة» (1130 - 1170م)، وبذلك صارت الزعامة السياسية والاقتصادية لكلوة، ويعتبر القرنان الثاني عشر والثالث عشر الميلاديان هما العصر الذهبى لتلك السلطنة الزنجية الإسلامية، فقد أصبحت «كلوة» عروس الشاطئ الإفريقى، وقام سلطانها بسك النقود، وقد عثر فى «كلوة» و«مافيا» و«زنجبار» على نحو (10000) قطعة نحاسية من هذه النقود.

    ولما كان مؤسسو «كلوة» الأوائل من الشيرازيين الفرس، فلا غرو أن يكون لهم تأثير كبير على أسلوب الحضارة الذى ازدهر هناك خلال القرون من العاشر إلى الثالث عشر الميلادى، فظهر الأسلوب الفارسى فى البناء بالحجارة، وفى صناعة الجير والأسمنت واستخدامهما فى البناء، وفن النقش على الخشب، ونسج القطن، وشيدوا عدة مساجد ومبانٍ جميلة الطراز، مازال بعض مخلفاتها باقيًا حتى الآن، ولكن الأثر العربى تغلب بعد ذلك بسبب كثرة الهجرات العربية واستقرارها.


    وقد وصل إلينا كثير من المعلومات عن هذه السلطنة من الوثائق التاريخية المهمة وبفضل ما كتبه عنها الرحالة والجغرافيون العرب كالمسعودى، و«الإدريسى»، و«ابن بطوطة» الذى زار مدينة «كلوة» و«ممبسة». وقال عن الأخيرة: «إنها جزيرة كبيرة بينها وبين أرض الساحل مسيرة يومين فى البحر، وأشجارها: الموز والليمون والأترج، وأكثر طعام أهلها السمك والموز، والقمح يأتى لهم من الخارج لأنهم لايزرعون. وهم شافعيون يعنون بأمور دينهم ويشيدون المساجد من الأخشاب المتينة». وبعد أن قضى «ابن بطوطة» ليلة في «ممبسة» ركب البحر إلى مدينة «كلوة»، وقال عنها: «إنها مدينة كبيرة، بيوتها من الخشب، وأكثر أهلها زنوج مستحكمو السواد، وهم شافعيون، ويحكمها السلطان «أبو المظفر حسن»، وقد كان فى قتال دائم مع السكان المجاورين، وعرف بتقواه وصلاحه، كما كان محسنًا كريمًا».


    ولم يكن السلطان «أبو المظفر حسن» الذى زار «ابن بطوطة» «كلوة» فى عهده فارسى الأصل، بل كان من أصل عربى صميم، فهو من بيت «أبى المواهب الحسن بن سليمان المطعون بن الحسن بن طالوت المهدلى» اليمنى الأصل. وقد انتقل الحكم من البيت الفارسى إلى هذا البيت العربى منذ عام (676هـ = 1277م)، وظل هذا البيت يحكم هذه السلطنة حتى جاء البرتغاليون وقاموا بغزوها في عام (1505م). وقد ازدادت الهجرات العربية فى عهد هذا البيت العربى الحاكم في «كلوة»، مما جعل الطابع العربى يتغلب على الطابع الفارسى في مظاهر الحياة المختلفة، فاللغة الغالبة هي اللغة العربية التي كانت تُكتَب بها سجلات «كلوة» بجانب اللغة السواحلية، كما كان المذهب الديني السائد هو المذهب الشافعي السُّني وليس المذهب الشيعي، الذي أتى به البيت الحاكم الأول على يد «على بن حسن بن علي الشيرازى»، وما زالت أغلبية المسلمين فى هذه المنطقة من السُّنة الشافعية حتى الآن.


    على آية حال فقد انفعل سلاطين هذه السلطنة سواء أكانوا من الفرس أم من العرب بالحياة والتقاليد الإسلامية كل الانفعال، فأكثروا من بناء المساجد والمدارس، واهتموا بالعلوم الإسلامية، واستقدموا العلماء ورحبوا بالأشراف والصالحين، كما شاركوا فى الجهاد ضد الوثنيين الذين كانوا يقيمون فى الداخل، وقد أشار إلى ذلك «ابن بطوطة» وقال: «إن سلطانها كان كثير الغزو إلى أرض الزنوج، يغير عليهم ويأخذ الغنائم فيُخرج خمسها ويصرفه فى مصارفه المعينة فى كتاب الله تعالى، ويجعل نصيب ذوى القربى فى خزانة على حدة، فإذا جاءه الشرفاء دفعه إليهم، وكان الشرفاء يقصدونه من 
    العراق والحجاز وسواها .. وكان هذا السلطان له تواضع شديد ويجلس مع الفقراء ويأكل معهم ويعظم أهل الدين والشرف».

    غير أن ازدهار «كلوة» لم يتجاوز منتصف القرن الرابع عشر؛ إذ أخذ نجمها فى الأفول بسبب تعرضها لبعض الاضطرابات الداخلية، وبدأت مدينة «بات» فى شمالها تقوى وتثرى لانتقال تجارة الذهب إليها، وأخذت فى التوسع صوب «كلوة» فى عهد أسرة «بنى نبهان»العربية التى أسست سلطنة قوية فى مدينة «بات» فرضت سلطانها 
    على كثير من بلاد الساحل الشرقى لإفريقيا، كذلك قام حاكم «سوفالة» بالتخلص من سيادة «كلوة» وأعلن استقلاله عنها، وانتهى الأمر إلى نزوح بعض العرب من «مالندة» (مالندى) إلى «كلوة» وتولوا مناصب الوزراء والأمراء وأبقوا على السلطان الذي لم يكن له من الحكم إلا الاسم فقط، وقام الصراع بين أفراد البيت الحاكم على منصب السلطان فى القرن الخامس عشر الميلادى، وتعاقبوا على العرش الواحد بعد الآخر، وقل المال حتى إن الحكومة لم تجد ما تنفقه على إصلاح المسجد الكبير بعد أن أصابه الخراب. 

    وقد أعطى كل هذا الفرصة للبرتغاليين للسيطرة على مقاليد الأمور فى البلاد، ففى عهد «فضيل بن سليمان» آخر سلاطين «كلوة» الذي بلغ عددهم (29) سلطانًا احتل البرتغاليون مدينة «كلوة» عام (1505م)، وفى أخريات القرن السابع عشر وقعت «كلوة» تحت سيادة سلاطين عُمان الذين قضوا على النفوذ البرتغالى في بلادهم ثم فى شرق إفريقيا. ولما فصل هؤلاء السلاطين ممتلكاتهم الأسيوية عن ممتلكاتهم فى إفريقيا فى عام (1856م) آلت «كلوة» إلى سلطان «زنجبار» العُمانى، ثم استولى عليها الألمان عام (1885م)، وفي عام (1919م) أصبحت جزءًا من «تنجانيقا» (تنزانيا الحالية).

    المصدر

    الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي
    نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
  2. #15
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    4,566

    افتراضي رد: سلسلة ممالك إسلامية في القارة الأفريقية


سلطنة اوفات

  1. سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
    سلطنة أوفات الإسلامية التي جابهت الحبشة الصليبية
    حوالى 648 - 805هـ = 1250 - 1402م
    (الحلقة الحادية عشر)

    كانت الحركة الإسلامية قد ازدادت قوة في بلاد الزيلع منذ القرن العاشر الميلادى. وبلاد الزيلع هى البلاد التي تحيط بهضبة الحبشة من الشرق والجنوب الشرقى، وتتمثل الآن فيما يعرف بإريتريا وجيبوتى والصومال الكبير بأقسامه الثلاثة: الشمالى والجنوبى والغربى، المعروف باسم إقليم «أوجادين»، يضاف إلى ذلك كل المناطق الإسلامية التي ضمتها الحبشة بالغلبة والقوة قرب نهاية القرن التاسع عشر الميلادى.

    في هذه البقعة الواسعة التي تنحصر بين ساحل البحر الأحمر وخليج عدن وبين هضبة الحبشة قامت مراكز تجارية عديدة على الساحل وانتشرت أيضًا في الداخل، وتحولت في النهاية إلى إمارات وممالك إسلامية نامية تحدث عنها المؤرخون القدامى، وقالوا إنها كانت سبع ممالك هى: «أوفات» و«هدية» و«فطجار» و«دارة» و«بالى» و«أرابينى» و«شرخا»، وامتدت هذه الممالك إلى «هرر» وبلاد «أروسى» جنوبًا حتى منطقة البحيرات، مطوقة الحبشة من الجنوب والشرق.


    غير أن هذه الممالك والسلطنات التي قامت في شرق الحبشة وجنوبها تختلف عما رأيناه في أقطار إفريقية أخرى في هذه المرحلة من التطور؛ إذ لم تكن هذه السلطنات إفريقية خالصة، أسستها أسرات من أهل البلاد الأصليين الذين أسلموا، كما حدث في 
    «مالى» و«صنغى» و«كانم وبرنو»، إنما أسستها أسرات عربية الأصل، فسلاطين «أوفات» وسلاطين «شوا» وغيرها يمثلون أرستقراطية عربية مهاجرة، استقرت في هذه الجهات ونمت ثروتها وازداد نفوذها واستولت على حكم البلاد وكانت الرعية مسلمة ومن أهل البلاد الأصليين.

    وكانت العلاقات بين هذه الإمارات متوترة تسودها المنافسات القبلية، ولم يكن بينها من رابط سوى الصلة الروحية فقط، وكانت من الضعف بحيث إن أمراءها لايتولون العرش - في كثير من الأحيان – إلا بموافقة ملك الحبشة المسيحى، وليس معنى ذلك أن مسلمى تلك الإمارات قنعوا بالخنوع والخضوع للأحباش، بل إنهم كانوا في أحيان كثيرة مناوئين لملك الأحباش وغازين له في عقر داره كما سنرى.

    و
    كان من أسباب ضعف هذه الإمارات أو السلطنات الإسلامية أنها ما كاد يكتمل نموها وتزداد قوتها حتى واجهت حربًا صليبية ضروسًا استنزفت مواردها وشغلتها عن التفرغ للدعوة الإسلامية، ولذلك فإن الإنتاج الثقافي لتلك الإمارات كان محدودًا جدا، إذ إن الصراع مع الأحباش أخذ كل وقتها ولم يترك لها فرصة للإبداع والابتكار، ولم تنج سلطنة واحدة من الاشتباك مع هؤلاء الأحباش.


    وقد قامت سلطنة «أوفات» حوالى (648 - 805 هـ = 1250 - 1402م) بعبء المقاومة والدفاع ضد هذا الخطر الصليبى الحبشى الذي كان يهدف إلى القضاء على الإسلام في منطقة القرن الإفريقى كلها، ولذلك كان من الواجب أن نخص هذه السلطنة بحديث. 


    كانت سلطنة «أوفات» أقوى سلطنة إسلامية قامت في بلاد «الزيلع»، أسسها قوم من قريش من «بنى عبدالدار» أو من «بنى هاشم» من ولد «عقيل بن أبى طالب».


    ومدينة «أوفات» هى نفسها مدينة «جبرة» أو«جبرت» وكانت من أكبر مدن بلاد «الزيلع»، وكانت تتحكم في الطريق التجارى الذي يربط المناطق الداخلية بميناء «زيلع» على البحر الأحمر. ولم يتضح تاريخ «أوفات» إلا حوالى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى حينما ظهر أحد أمراء المسلمين وكان يسمى «عمر» ويعرف بلقب «ولشمع»، وأقام هذه السلطنة التي نمت وازدادت قوتها حتى استطاع صاحبها «عمر ولشمع» أن ينتهز فرصة ضعف سلطنة «شوا» المخزومية وأن يهاجمها عام (684هـ = 1285م) ويقضى عليها ويستولى على أملاكها كما رأينا عند الحديث عن هذه السلطنة. 


    وقد أدى هذا إلى اتساع سلطان «بنى ولشمع» السياسى، واستطاعت «أوفات» في عهدهم أن تبسط نفوذها على بقية هذه الإمارات الصغرى التي أشرنا إليها وأن يصل هذا النفوذ حتى ساحل البحر الأحمر وحتى منطقة «زيلع» وسهل «أوسا».


    وكانت مساحة الأراضى التي سيطر عليها المسلمون بزعامة «أوفات» تفوق مساحة أرض مملكة الحبشة المسيحية نفسها، بل كانت تحيط بالحبشة من الجنوب والشرق، فضلا عن إحاطة الإسلام بها من ناحية السودان من الشمال والغرب، مما أدى إلى عزل مملكة الحبشة عزلا تاما عن العالم الخارجى، ولاسيما بعد استيلاء المسلمين على ميناء «عدل» قرب «مصوع»، ولذلك لاندهش من أنه عندما تولت الأسرة «السليمانية» عرش الحبشة عام (669هـ = 1270م)، رسمت لنفسها خطة لتوسيع سلطان «الحبشة» على حساب جيرانها من المسلمين الذين كانوا يسيطرون على الموانى ومن ثم على التجارة الخارجية.


    وبذلك بدأت أولى مراحل الجهاد والصراع بين «أوفات» وتوابعها من الإمارات الإسلامية وبين ملوك الحبشة من ذلك الحين، وكانت البداية المبكرة على أيام الملك «ياجبياصيون» (684 - 693هـ = 1285 - 1294م) الذي شن حملة صليبية عنيفة ضد إمارة «عَدَل» التابعة لأوفات، وكان قد استشعر خطر الاتحاد الإسلامي الذي كانت تدعو إليه سلطنة «أوفات»، فضلا عن أن تلك السلطنة أعلنت زعامتها على الممالك الإسلامية المجاورة لها في بلاد «الزيلع»، وكان هذا أمرًا يتعارض مع مشاريع ملوك الحبشة الجدد، فقاموا بحملتهم تلك التى أشرنا إليها، وانتهت بانتصارهم. 


    وترجع هذه الهزيمة إلى أن حركة المقاومة التي تزعمتها «أوفات» لم تكن منبعثة عن وحدة وتعاون فعال بينها وبين الممالك الإسلامية، ولذلك هزمهم الأحباش من أول لقاء، بل يقال إن إمارتين إسلاميتين عاونتا ملك الحبشة في هجومه الذي انتهى بنهب «عَدَل» وعَقْد هدنة بين الطرفين، وكان من الممكن أن تكون هذه الحرب هى القاضية لولا تدخل سلطان «مصر» المملوكى الذي هدد بقطع العلاقات وعدم الموافقة على تعيين «المطران» الذي طلبه الأحباش، وكان يعين من قبل بطرك مصر، وأثمر هذا التدخل، فقَبِل الأحباش الهدنة مع «أوفات».


    استطاع المسلمون تقوية مراكزهم ودعم سلطانهم على طول منطقة الساحل، وكانوا يرتقبون فرصة ضعف أو تخاذل في صفوف أعدائهم، وعندما علموا بوفاة ملك «الحبشة» عام (698هـ = 1299م)، قام شيخ مجاهد يدعى «محمد أبو عبدالله» بحشد طائفة كبرى من قبائل «الجَلا» و«الصومال» وأعدهم للجهاد، وقام بغزو الحبشة، ولم تعمد الحبشة إلى المقاومة بسبب بعض المتاعب الداخلية، واضطر ملكها إلى التنازل للمسلمين عن بضع ولايات على الحدود نظير الهدنة، ولم يكن سلاطين «أوفات» ليقنعوا بالهدنة، وخاصة أن قوتهم قد ازدادت، فلم يستطع الملك الحبشى «ودم أرعد» (698 - 714هـ = 1299 - 1314م) أن يرد هجماتهم.


    ورأت «أوفات» أن تظهر قوتها للحبشة بل وتتوسع في أملاكها وتقضى على عدوانها، فتقدم السلطان «حق الدين» وتوغل في أملاك الحبشة وغزا بعض الولايات المسيحية؛ مما جعل ملك الحبشة يقوم بغزو«أوفات» في عام (728هـ = 1328م) وهاجمها من جميع الجهات وأسر «حق الدين» ووضع يده على مملكته وعلى «مملكة فطجار» الإسلامية وجعلهما ولاية واحدة وعين عليها «صبر الدين» وهو شقيق «حق الدين» بشرط الاعتراف بسيادة الحبشة. 


    غير أن «صبر الدين» لم يطق صبرًا على هذه التبعية وكوَّن حلفًا إسلاميا من إمارتى «هدية» و«دوارو»، ثم تقدم لغزو الحبشة واستولى على كثير من الغنائم، وهدد ملك الحبشة الذي خرج على رأس جيشه وهاجم الحلفاء منفردين بادئًا بإمارة «هدية»، فحطمها قتلا ونهبًا وأسرًا، وأرغمها على الخروج من الحلف، وحمل ملكها أسيرًا إلى عاصمته، ثم تقدم إلى «أوفات» ودخلها ودمرها ونهب معسكر المسلمين فيها، ثم تقدم إلى «فطجار» واستولى عليها وعلى مملكة «دوارو».


    وعلى ذلك يمكن القول بأنه في هذه الفترة انتهى استقلال الممالك الإسلامية في «أوفات» و«هدية» و«فطجار» و«دوارو». 

    وعين عليها ملك الحبشة «جلال الدين» أخا «صبر الدين» حاكمًا، فقبل على أن يكون تابعًا للحبشة، وهكذا اتسعت مملكة الحبشة وضعف أمر المسلمين.

    وفي غمرة هذا الصراع الدموى اتفقت كلمة المسلمين بين عامي (1332 و1338م) على الاستنجاد بدولة المماليك في «مصر»، وذلك بإرسال سفارة إلى سلطان «مصر» «الناصر محمد بن قلاوون» برئاسة «عبدالله الزيلعى» ليتدخل السلطان في الأمر لحماية المسلمين في بلاد «الزيلع». فطلب «الناصر محمد» من بطرك الإسكندرية أن يكتب رسالة إلى ملك الحبشة في هذا الصدد. غير أن ملك الحبشة لم يكفَّ عن مهاجمة المسلمين الذين لم يتوانوا في انتهاز الفرص للثأر منه.


    وتحالفت إمارتا «مورا» و«عدل» مع بعض القبائل البدوية وأخذوا يشنون حربًا أشبه بحرب العصابات، وأخذ ملك الحبشة في مطاردتهم وتقدم في أراضى «مورا» الإسلامية، حتى وصل إلى مدينة «عَدَل» وقبض على سلطانها وذبحه، فتقدم أولاد السلطان الثلاثة إلى ملك الحبشة مظهرين الخضوع.


    وفي تلك الأثناء انتاب إمارة «أوفات» بعض الفتن الداخلية بسبب النزاع على العرش بين أفراد الأسرة الحاكمة، وانتهى النزاع بانفراد «حق الدين الثانى» وإعلان استقلاله عن الحبشة، واستطاع أن يهزمها ويردها عن إمارته فترة طويلة حتى هُزم ومات عام (788هـ = 1386م)، والتف المسلمون للمرة الأخيرة حول خليفته وأخيه «سعد الدين»، واستأنفوا حركة الجهاد ودحروا الأحباش، وتوغلوا في أرض «أمهرة» (مملكة النجاشى) لكن «سعد الدين» هُزم في معارك تالية، واضطر إلى الفرار إلى جزيرة «زيلع» حيث حوصر وقتل عام (805هـ = 1402م) نتيجة لخيانة رجل دلَّهم على مكمنه. 


    ويعتبر احتلال الأحباش لزيلع بمثابة إسدال الستار على سلطنة أوفات التى احتلها الأحباش نهائيا، ولم يعد يسمع بها أحد، وانتهى دورها في الجهاد، وتفرق أولاد «سعد الدين» العشرة مع أكبرهم «صبر الدين الثانى»، وهاجروا إلى شبه الجزيرة العربية حيث نزلوا في جوار ملك اليمن «الناصر أحمد بن الأشرف» الذي أجارهم وجهزهم 
    لاستئناف الجهاد ضد الحبشة، فعادوا إلى إفريقيا حيث انضم إليهم من بقى من جنود والدهم، فقوى أمرهم واستأنفوا النضال واتخذوا لقبًا جديدًا هو لقب «سلاطين عَدَل».
    المصدر
    الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي
    نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
  2. #13
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    4,566

    افتراضي رد: سلسلة ممالك إسلامية في القارة الأفريقية

    سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
    سلطنة عَدَل الإسلامية ووقوفها بوجه الاحباش والبرتغاليين
    817 - 985هـ = 1414 - 1577م
    (الحلقة الثانية عشر)

    كانت «عَدَل» إقليمًا من الأقاليم التى خضعت لسلاطين «أوفات».
    وليس ببعيد أن تكون قد تأسست فيها إمارة محلية تدين بالولاء لبنى ولشمع، ويبدو أن موقعها المتطرف قد ساعد على نجاتها من التوسع الحبشى الذى أطاح بالإمارات السابقة. وكان طبيعيا أن يأوى «بنو سعد الدين» إلى إقليم قريب من البحر يتيح لهم الاتصال ببلاد اليمن بعيدًا عن مناطق النفوذ الحبشى. وكانت تلك السلطنة تضم البلاد الواقعة بين ميناء «زيلع» و «هرر» وتشمل ما يعرف بالصومال الشمالى والغربى وإقليم «أوجادين»، وسميت هذه البلاد «بر سعد الدين» تخليدًا لسعد الدين الذى مات بزيلع ودفن بها. 

    استأنف سلاطين «عَدَل» الجهاد مرة أخرى فى عهد «صبر الدين الثانى» الذى اتخذ مدينة «دَكَّر» عاصمة له، واستطاع الاستيلاء على عدة بلاد حبشية فيما يعرف بحرب العصابات، وبعد وفاته عام (825هـ = 1422م) خلفه أخوه «منصور» المتوفى سنة (828هـ = 1425م) الذي بدأ عهده بحشد عدد كبير من مسلمى «الزيلع» وهاجم بهم ملك الحبشة وقتل صهره وكثيرًا من جنده، وحاصر منهم نحوًا من ثلاثين ألفًا مدة تزيد على شهرين، ولما طلبوا الأمان خيَّرهم بين الدخول في الإسلام أو العودة إلى قومهم سالمين، فأسلم منهم نحو عشرة آلاف وعاد الباقون إلى بلادهم، ولم يقتلهم «منصور» ولم يستعبدهم كما كان يفعل ملوك الحبشة بجنود المسلمين الذين كانوا يقعون في أسرهم.


    لكن ملك «الحبشة» «إسحاق بن داود» أعد جيشًا كبيرًا وهجم به على «منصور» وقواته وهزمها هزيمة شنيعة لدرجة أن السلطان «منصور» وقع هو وأخوه الأمير «محمد» فى أسر «إسحاق» عام (828هـ = 1425م).


    ولكن راية الجهاد ضد عدوان الأحباش لم تسقط بهذه الهزيمة، فقد قام أخ للسلطان الأسير وهو السلطان «جمال الدين» برفع راية الجهاد من جديد. 


    وانتصر على ملك الحبشة فى مواقع كثيرة، ولكن أبناء عمه حقدوا عليه ربما رغبة فى النفوذ والسلطان الذى حرموا منه فاغتالوه في عام (836هـ = 1432م)، فتولى الحكم بعده أخوه السلطان «شهاب الدين أحمد بدلاى» الذى عاقب القتلة وحارب الأحباش واسترد إمارة «بالى» الإسلامية من أيديهم، ولكنه وقع صريعًا أمام الأحباش في (848هـ = 1444م) نتيجة لخيانة أحد الأمراء الذين أظهروا التحالف معه. ومن ثم تمكن الأحباش من اجتياح سلطنة «عَدَل» وبقية الممالك الزيلعية الأخرى، وأصبحت الحبشة إمبراطورية كبيرة امتدت شمالا حتى مصوع وسهول السودان وضمت «أوفات» و«فطجار» و«دوارو» و«بالى» و«هدية»، ومنحت هذه الإمارات استقلالها الذاتى، وولت عليها عاملاًيسمى «الجراد» ينحدر من البيت المالك القديم.


    ويبدو أن الرغبة الصادقة فى الجهاد التى عرف بها الجيل الأول من سلاطين «أوفات» قد فترت عند أحفادهم سلاطين «عدل»، فقد سئموا القتال وجنحوا إلى المسالمة ولكن الشعب المسلم لم يتخل عن سياسته التقليدية فى جهاد الأحباش ومقاومتهم. وكان تخاذل سلاطين «عدل»، وتحمس الشعب للجهاد مؤذنًا ببداية الدور الأخير من 
    أدوار الجهاد وهو دور «هرر».

    وتميز هذا الدور بظهور طائفة من الأمراء الأئمة أشربت قلوبهم حب الجهاد وصارت لهم السلطة الفعلية فى البلاد، وبذلك أصبح في المجتمع العَدَلى حزبان: هذا الحزب الشعبى الذى يتزعمه الأمراء الأئمة، وذلك الحزب الذى يريد أن يسالم الأحباش ويتكون من الطبقة الأرستقراطية والتجار، وعلى رأسه سلاطين عدل التقليديون.


    وكان أول هؤلاء الأئمة ظهورًا هو الداعى «عثمان» حاكم زيلع الذي أعلن الجهاد بعد وفاة السلطان «محمد بن بدلاى» مباشرة عام (876هـ = 1471م)، ثم ظهر فى «هرر» الإمام «محفوظ» الذي تحدي السلطان «محمد بن أزهر الدين»، واشتبك مع الأحباش، غير أن البرتغاليين ظهروا على مسرح الأحداث وفاجئوا «زيلع» وأغاروا عليها وانتهى الأمر بفشل حركة «محفوظ»، وباغتيال السلطان «محمد» سنة (924هـ = 1518م). 


    وفى بداية القرن (16م) ظهرت تطورات كان لها تأثيرها فى مسرح الأحداث بين المسلمين والأحباش، تمثلت فى ظهور الأتراك العثمانيين وقيام حركة الكشوف الجغرافية بزعامة الملاحين البرتغاليين، كذلك أدخلت الأسلحة النارية إلى منطقة الأحداث فى بلاد «الزيلع» و«الحبشة»، وأهم من هذا كله إسلام قبائل البدو من الأعفار والصومالى، ودخولها ميدان الجهاد، ووقوفها وراء الإمام الذي رشحته الأحداث لتزعم حركة الجهاد الإسلامى فى ذلك الدور، وهو الإمام «أحمد بن إبراهيم الغازى» الملقب بالقرين أى الأشول. 


    اتبع الإمام «أحمد القرين» بعد أن سيطر على مقاليد الأمور في سلطنة «عَدَل» وبعد أن اتخذ «هرر» مقرا له سياسة موفقة جمعت الناس حوله، فقد طبق الشريعة الإسلامية فى حكمه وخاصة في توزيع أموال الزكاة والغنائم على مستحقيها وفى مصارفها الشرعية، وبذلك كسب حب الجند وحب الفقهاء والعلماء، كما كسب أيضًا محبة الشعب، فقد كان يلطف بالمساكين ويرحم الصغير، ويوقر الكبير، ويعطف على الأرملة واليتيم، وينصف المظلوم من الظالم، ولا تأخذه فى الله لومة لائم، كما قضى على قُطَّاع الطرق فأمنت البلاد وانصلح حال الناس وانقادوا له وأحبوه.


    بهذه السياسة الداخلية السليمة استطاع الإمام «أحمد القرين» أن يوحد كلمة المسلمين ويتولى زعامتهم وعزم على رد عادية الأحباش، وذلك بفتح بلاد الحبشة ذاتها، وتمكن من التوغل فيها حتى وصل إلى أقاليمها الشمالية، ودارت بينه وبين الأحباش عدة معارك، كان أولها فى عام (933هـ = 1527م) حيث هزم الأحباش لأول مرة منذ بداية الجهاد. وفى عام (934هـ = 1528م) أحرز الإمام «أحمد» نصرًا حاسمًا على الأحباش فى موقعة «شنبر كورى»، ثم بدأ فى غزو بلاد الحبشة نهائيا.


    ففى سنة (938هـ = 1531م) دخل «دوارو» و«شوا» و«أمهرة» و«لاستا». وفى سنة (940هـ = 1535م) سيطر المسلمون على جنوب الحبشة ووسطها، وغزوا «تجراى» للمرة الأولى وأصبح مصير الأحباش فى كفة الميزان.


    وفى هذا الوقت كان الزحف البرتغالى قد وصل إلى البحر الأحمر فاستنجد بهم الأحباش عام (942هـ = 1535م) فأرسل إليهم ملك البرتغال نجدة عسكرية وصلت البلاد عام (948هـ = 1541م)، وتقابل المجاهدون بقيادة «أحمد القرين» مع الأحباش والبرتغاليين في عدة مواقع عام (949هـ = 1542م)، لكنه هُزم وتكررت هزيمته فى العام التالي حيث استشهد وتفرقت جموعه، ونجت الحبشة من السقوط، ولم يعد المسلمون مصدر خطر جدى يهدد الأحباش، ومع ذلك فإن حركة الجهاد لم تمت بموت «أحمد القرين»، بل استأنفها خلفاؤه من بعده وخاصة فى عام (966هـ = 1559م) بقيادة الأمير «نور» الذى اتخذ لقب أمير المؤمنين، والسلطان الأسمى المسمى «عليَّا» سليل أمراء «عَدَل» السابقين، لكن هذه الجهود باءت بالفشل.


    وكانت انتفاضة «هرر» الأخيرة عام (985هـ = 1577م) حينما تحالفت مع أحد ثوار الأحباش للنيل من ملك الحبشة، وحدثت موقعة انتهت بمقتل «محمد الرابع» آخر أمراء «هرر» عند نهر «ويبى»، وانتهت هرر كقوة سياسية ذات شأن، فى الوقت الذى استطاع فيه الأحباش أن يقضوا على خطر الأتراك العثمانيين أيضًا بهزيمتهم وعقد هدنة
    معهم عام (997هـ - 1589م) واكتفى العثمانيون بالسيطرة على «مصوع» و«سواكن»، وبذلك انتهى الصراع فى الحبشة لصالح الأحباش.

    وإذا كانت هذه الحركة لم تحقق أهدافها بالقضاء على مملكة الحبشة نهائيا، إلا أنها أثبتت عمق الشعور الإسلامى فى نفوس أهل شرق إفريقيا وعمق تمسكهم بالإسلام، فقد دأبوا على الجهاد وأصروا عليه طيلة أربعة قرون، وظهر أثر العلماء والفقهاء وأصبحت لهم الزعامة فى المجتمع فى ذلك الوقت.


    وعلى الرغم من هذه الهزيمة التى منى بها المسلمون في منطقة القرن الإفريقى وانصراف اهتمام العثمانيين إلى أوربا والعالم العربى، فإن المسلمين الزيالعة بقيت لهم بعض سلطناتهم وبلادهم. 


    ذلك أن الصراع الذى اندلع بينهم وبين الأحباش أنهك الطرفين معًا؛ مما هيأ الفرصة لدخول قبائل الجلا الوثنية القادمة من الجنوب، فاحتلت «هرر» واستقرت فى النصف الجنوبى من دولة الحبشة، ثم أسلمت هذه القبائل أخيرًا، ولكن أوربا الغربية أعانت الأحباش على المسلمين فى القرن التاسع عشر الميلادى، وخاصة فى عهد «منليك 
    الثانى» الذى استولى على سلطنة «هرر» فى عام (1302هـ = 1885م) وعلى غيرها من البلدان الإسلامية، ثم استولى الأحباش على سلطنة «أوسا»، ثم على «إريتريا» و «إقليم الأوجادين الصومالى» فى القرن العشرين. وظل الأمرعلى هذا النحو حتى نالت هذه البلاد استقلالها وتحررت من نير الأحباش، وإن كان بعضها لايزال تحت سيطرتهم حتى الآن.

    المصدر

    الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي
    نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
  3. #14
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    4,566

    افتراضي رد: سلسلة ممالك إسلامية في القارة الأفريقية


سلطنة شوا الإسلامية المخزومية

  1. سلسلة ممالك اسلامية في القارة الافريقية
    سلطنة شوا الإسلامية المخزومية
    (283 - 684هـ = 896 - 1285م)
    (الحلقة العاشرة)

    أسست هذه السلطنة على يد أسرة عربية تسمى «بنى مخزوم» سنة (283هـ = 896م)، وليس ثمة شك في أن هؤلاء كانوا عربًا هاجروا إلى هذه الجهات في ذلك الوقت المبكر، وليس بعيدًا أن يكونوا قد نزلوا أول الأمر في ضيافة إمارة محلية، ثم اختلطوا بالأمراء عن طريق المصاهرة حتى آل إليهم الملك آخر الأمر.
    وأيا كان الأسلوب الذي انتقل به الحكم في «شوا» إلى هذه الأسرة العربية المخزومية، فقد أدى ذلك إلى قيام «سلطنة شوا الإسلامية»، التى استمرت أربعة قرون من الزمان في الفترة (283 - 684هـ = 896 - 1285م) تمتعت في معظمها بالأمن والاستقرار وازدهار العمران، وكثرة المدن والقرى والنواحى، حتى إن وثيقة «تشيروللى» ذكرت أكثر من خمسين اسمًا لمواقع كانت موجودة، ووقعت على أرضها أحداث مهمة.

    ومن أمثلة هذه المدن أو النواحى مدينة «ولِلَّه» العاصمة، ومدن هكلة (هجلة) وجداية، ودجن، وأبتا، ومورة، وحدية (لعلها مملكة هدية الإسلامية) والزناتير، والمحررة، وعَدَل التي أصبحت عاصمة لمملكة إسلامية في القرن الخامس عشر الميلادى، مما يدل على أن هذه السلطنة اتسمت بسعة المكان وازدهار العمران وكثرة المدن والبلدان. 


    وهذا الازدهار العمرانى الحضارى الذي تمتعت به سلطنة شوا الإسلامية كان نتيجة لما تملكه من أرض غاية في الخصوبة استغلها السكان وزرعوا فيها ما يكفى حاجتهم ويسد مطالبهم، خاصة أنه قد استمر توافد الجماعات الإسلامية المهاجرة في أعداد يسيرة، واستطاعت أن تتجمع وتدعم كيان هذه السلطنة الإسلامية بزعامة هذه الأسرة العربية التي اتخذت من «وللِّه» عاصمة لها، والتى يصعب تحديد موضعها الآن نتيجة لكثرة التغيرات التي تعرضت لها المنطقة. 


    ونتيجة لهذا الإزدهار لم تكن الدولة المخزومية في «شوا» إمارة أو مملكة صغيرة، بل كانت سلطنة كبيرة، توالى على حكمها كثير من الحكام الذين اتخذوا لقب سلطان كما أشارت إلى ذلك وثيقة «تشيروللى».


    هذا وقد ظهر في هذه السلطنة الوظائف السياسية والدينية المعروفة وقتذاك في بقية الدول الإسلامية مثل الوزراء والقضاة، يتضح ذلك من الوثيقة المذكورة التي عنى المؤرخ فيها بتسجيل وفاة الفقيه «إبراهيم بن الحسن» قاضى قضاة شوا في رمضان (653هـ = أكتوبر 1255م)، مما يدل على وجود حياة علمية ودينية زاخرة، شأنها في ذلك شأن السلطنات الإسلامية الأخرى؛ مما يجعلنا نقول إن هذه السلطنة عاشت عصرًا زاهرًا كبيرًا، وأنها عاشت مستقلة عن جيرانها سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين.


    والسبب الذي أتاح لهذه السلطنة ذلك الاستقلال وهذا الهدوء مع دولة الحبشة هو ظروف الحبشة نفسها، فقد كانت تعيش حياة مليئة بالاضطراب السياسى وعدم الاستقرار، فقد كانت مملكة «أكسوم» الحبشية القديمة في أواخر أيامها عندما نشأت سلطنة شوا الإسلامية، ولذلك لم تتمكن «أكسوم» من التصدى لتلك الدولة أو تمنع قيامها في جزء من الهضبة الحبشية ذاتها لبعد «أكسوم» التي كانت تقع في أقصى الشمال، بينما كانت دولة «شوا» في أقصى الجنوب، ولذلك لم يحدث بينهما أى نوع من أنواع العلاقات، سواء أكانت ودية أم عدائية.


    ومن الأسباب التي أتاحت الهدوء لهذه السلطنة ما حظيت به من موقع حصين فقد كان يحيط بها جبال وعرة تحف بمجرى نهر تكازى الأعلى من ناحية اليمين، والنيل الأعلى من جهة اليسار، وهذه الجبال جعلت من «شوا» حصنًا آمنًا يوفر الحماية لمن يسكنه. 


    وقد استغل بنو مخزوم هذا الهدوء وهذا السلام اللذين تمتعوا بهما حوالى ثلاثة قرون ونصف قرن من الزمان في تنمية قدرات السلطنة الاقتصادية والسياسية والدينية، فصار لها نفوذها في المناطق المجاورة وخاصة المناطق الإسلامية التي تقع إلى الشرق منها وهى سبع ممالك صغيرة قامت في القرن الثالث عشر الميلادى.


    كما كان لها دورها الدينى أيضًا، من ذلك أن أحد سلاطينها ويسمى (حربعر) بذل جهودًا كبيرة لنشر الإسلام صوب الداخل وخاصة فى «جبلة» في سنة (502هـ = 1108م)، وفى بلاد «أرجبة»، وأن هذه البلاد بعد إسلام أهلها أضيفت إلى أملاك سلطنة «شوا» المخزومية، أى أن هذه السلطنة كانت من المراكز التي ساعدت على نشر الإسلام وثقافته في هذه المنطقة.


    وقد حافظ الأهالى من الأحباش على إسلامهم، سواء أكانوا من أحباش شوا أم من أحباش المناطق المجاورة لها، وذلك رغم الاضطهاد الشديد والمستمر الذي تعرض له المسلمون في القرن الإفريقى على يد ملوك الحبشة (إثيوبيا) منذ عام (669هـ= 1270م). 


    ولكن سيطرة «شوا» على جيرانها المسلمين لم تستمر طويلا أمام اضطراب أحوالها وكثرة الفتن الداخلية التي جعلتها تسير في طريق الضعف وخاصة في الخمسين عامًا الأخيرة من عمرها، ولذلك انتهز حكام «أوفات» الإسلامية الفرصة وأغاروا عليها وأسقطوها وضموها إلى دولتهم.


    وطبيعى أن لسقوط سلطنة «شوا» الإسلامية أسبابًا، وعوامل أدت إليه، أهمها:

    العوامل الاقتصادية: وتتمثل في ظروف طبيعية جغرافية حدثت فى الثلاثين عامًا الأخيرة من عمر الدولة، وأدت إلى نقص مياه الأمطار بدرجة نتج عنها حدوث مجاعات، وطواعين فتكت بالناس فتكًا ذريعًا، وأضعفت الدولة وسكانها أمام أى هزات داخلية أو خارجية. 
    سوء الأحوال السياسية: ويتمثل في الصراع الداخلى بين أمراء الأسرة المخزومية على الحكم، وكثرة المتمردين والمغتصبين لعرش السلطنة، وكثرة الحروب الأهلية، وما كان ينتج عنها من إحراق المدن وتدميرها ونهبها وقتل كثير من سكانها.

    ولم يظهر الصراع الداخلى بين أمراء هذه السلطنة إلا في المائة عام الأخيرة من عمرها وخاصة منذ عهد السلطان «حسين» (575هـ = 1179م)، ثم تولى بعده السلطان «عبدالله» سنة (590هـ = 1194م)، وكان مغتصبًا للعرش، استطاع أن يزيحه ابن السلطان «حسين» فى (632هـ = 1232م) واستمر في الحكم 14 عامًا، ثم أعقبه عدد من المغتصبين، ثم عاد العرش إلى صاحبه الشرعى وهو السلطان «دلمارة بن والزرة» سنة (668هـ = 1269م) الذي صاهر «عمر ولشمع» سلطان «أوفات» الإسلامية كى يشد أزره بهذه المصاهرة، لكن الطامعين في العرش ازدادوا شراسة حتى انتهى الأمر بمقتل السلطان «دلمارة» في سنة (682هـ = 1283م) وقد أدت هذه الظروف السيئة إلى تدخل سلطان «أوفات» (عمر ولشمع) فدخل «شوا» وانتقم من قتلة صهره السلطان «دلمارة» واستطاع أن يعيد الأمن والوحدة إلى «شوا» من جديد، وبهذا حافظ (عمر ولشمع) على سلطنة «شوا» من أن تقع في يد الأحباش وذلك بعد أن ضمها لدولته.
    المصدر 
    الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي
    نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
  2. #12
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    4,566

    افتراضي رد: سلسلة ممالك إسلامية في القارة الأفريقية


سلطنة الفونج حبشية سودانية وسلطنة دارفور


  1. سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
    سلطنة الفونج الإسلامية في سنار التي واجهت النصرانية والوثنية
    ونشرت الإسلام بجنوب السودان
    910 - 1236هـ = 1505 - 1820م
    (الحلقة الثامنة)

    اختلف الباحثون في أصل «الفونج»، فقيل إنهم من سلالة عربية أموية هربت من وجه العباسيين، وأنهم جاءوا إلى «الحبشة» أولا ومنها إلى «السودان الشرقى» (النيلى)؛ حيث تصاهروا مع ملوك «السودان»، وظهرت نواة إمارة «الفونج» عقب القضاء على مملكة «دنقلة» المسيحية، وتسرَّب العرب على نطاق واسع إلى مملكة «علوة» المسيحية، واتَّسع نطاق هذه الإمارة غربًا، ووصل إلى أطراف منطقة الجزيرة من الشرق، ثم تمَّ التحالف بين هذه الإمارة النامية في عهد أميرها «عمارة دونقس» (911 - 941هـ= 1505 - 1534م) وبين عرب «القواسمة» الذين ينتمون إلى مجموعة «الكواهلة» في عهد زعيمهم وشيخهم «عبدالله جَمَّاع».

    وقد كان لهذا التحالف نتائج مهمة في تاريخ «سودان وادى النيل»:

    أولها: قضاء الحليفين على مملكة «علوة» المسيحية عام (911هـ= 1505م).
    وثانيها: قيام مملكة «العبد لاب» التي اتَّخذت مدينة «قِرِّى» حاضرة لها، ثم انتقلت منها إلى «حلفاية»، وشاركت «الفونج» في السيطرة على القسم الشمالى من البلاد وامتدَّ ملكهم من مصب «دندر» إلى بلاد «دنقلة».
    وثالثها: قيام مملكة «الفونج» الإسلامية التي كان «عمارة دونقس» أول سلطان لها وامتدت من «النيل الأزرق» إلى «النيل الأبيض». 
    وقد بلغت هذه السلطنة أوج مجدها في عهد السلطان «بادى الثانى أبو دقن» (1052 - 1088هـ = 1642 - 1677م)؛ إذ امتدت رقعتها من «الشلال الثالث» إلى «النيل الأزرق»، ومن «البحر الأحمر» إلى «كردفان»، واستمر توسُّع هذه الدولة طيلة القرن الثامن عشر الميلادى في عهد الملك «بادى الرابع».

    وقد اتخذت سلطنة «الفونج» مظهرًا إسلاميا منذ البداية، فقد استهلت حياتها بالإسهام في حركة الجهاد الإسلامى، وساعدت العرب في القضاء على مملكة «علوة» المسيحية، وبذلك تدفَّق الإسلام في وسط «السودان»، ومنه إلى الجنوب والغرب.


    كما أسهموا في محاربة الوثنيين داخل «السودان» نفسه، فقد حاربوا أهل جبال «النوبا» بسبب غاراتهم على «كردفان»، واستمروا في حربهم زمنًا طويلا حتى انتشر الإسلام في كثير من مناطق هذه الجبال في غربى «السودان».


    كما حارب «الفونج» «الشلك» (أو الشلوك) للغرض نفسه، بل شاركوا في حركة الجهاد الإسلامى ضد الأحباش في القرن الثامن عشر الميلادى فقد قضوا على بعثة فرنسية كانت قد قدمت إلى «الحبشة»، بهدف مساندتها في حربها ضد المسلمين عام (1117هـ= 1705م)، كما اشتبكوا مع الأحباش في عهد الملك «بادى الرابع أبى شلوخ» سنة (1157هـ = 1744م)، وكانت جيوش «الفونج» بقيادة شيخ «قرى» التي كان يتولى إمارتها الشيخ «محمد أبو اللكيلك» كبير الهمج (الهمق)، الذى قضى على دولة «الفونج» فيما بعد، وقد انتصر هؤلاء القواد على جيش «الحبشة»، وكان لانتصارهم هذا دوى هائل في العالم الإسلامى المعاصر في «مصر» و«الشام» و«الحجاز» و«تونس» و«إستانبول» و«الهند».


    ولم يسهم «الفونج» في نشر الإسلام عن طريق الجهاد فحسب، إنما استعانوا بالوسائل السِّلمية التي كانت الأصل في غالب الأحوال وكان لرواد الدعوة الذين وفدوا من «الحجاز» و«المغرب» و«مصر» و«العراق» إلى جانب الدعاة الوطنيين فضل كبير في هذا السبيل فالحج والتجارة بين «الحجاز» و«السودان» كانا من أكبر ماهيَّأ للسودان نشر الدعوة. وكان حجاج «السودان» يشجعون علماء «الحجاز» على الرحلة إلى بلاد «الفونج»، كما أن كثيرًا من السودانيين كانوا يتلقون العلم في «مكة» و«المدينة». أما «المغرب» فكان منبعًا آخر للثقافة الإسلامية. أما «مصر» فكانت علاقة «السودان» بها في ذلك الحين أقل من تلك التي كانت بينه وبين «الحجاز» و«المغرب»، ومع ذلك تطلَّع ملوك «الفونج» إلى «الأزهر» وعلمائه ورحبوا بهم، وكان بعض السودانيين يذهبون إلى «الأزهر» ثم يعودون إلى بلادهم ناشرين الإسلام وثقافته.


    وقد رحل أحدهم وهو الفقيه «محمد الجعلى» إلى منطقة جبال «النوبا» التي تقع جنوب «كردفان» مع مجموعة من الفقهاء؛ للدعوة إلى الإسلام في أوائل القرن السادس عشر الميلادى واستطاع أن يتزوَّج أميرة من البيت الحاكم هناك، فانتقل الحكم إلى ابنه المسمَّى «قيلى أبو جريدة». وقد أسَّس هذا الابن أول أسرة إسلامية حاكمة في جبال «النوبا»، سنة (926هـ = 1520م) عرفت باسم مملكة «تقلى»، وكان هو أول سلاطينها. 


    كذلك كان لسلطنة الفونج وعاصمتها اتصال بدارفور التي كانت تستعين بفقهاء «سنار» في نشر الدعوة، وكان للفونج اتصال أيضًا بالباشا التركى في موانئ «البحر الأحمر» في «سواكن» و«مصوع»؛ حيث كان له وكلاء في «سنار» و«أريجى»، وكذلك اتصلوا باليمن وغيره من الأمصار الإسلامية؛ مما يدل على عمق الروح الإسلامية التي تغلغلت في مملكة «الفونج».


    وتظهر هذه الروح الإسلامية في معاملتهم الحسنة لرجال العلم، وفى احترامهم وإحاطتهم بالرعاية والتكريم، فرحل إليهم كثير من علماء المناطق النائية، وعاشوا في جوارهم، مما كان له أثر كبير على مسيرة الإسلام في هذه السلطنة.
    المصدر
    الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي
    نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
  2. #10
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    4,566

    افتراضي رد: سلسلة ممالك إسلامية في القارة الأفريقية


    سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
    سلطنة دارفور الإسلامية
    849=1292هـ = 1445 - 1875م
    (الحلقة التاسعة)

    بلاد «دارفور» عبارة عن هضبة تنتشر فيها المراعى وتتخللها بعض المرتفعات، ويتألف سكانها من العنصر الزنجى والعنصر الحامى، وكانت هذه البلاد مستقرا لشعب يُسمَّى شعب «الداجو»، وفد عليها من الشرق أو من «جبال النوبا» الواقعة غرب «النيل الأبيض» قبل القرن الثانى عشر الميلادى وأسس فيها مُلكًا.
    وفى القرن الثاني عشر الميلادي دخل هذه البلاد عنصر مغربى من «تونس» يتمثل في «شعب التنجور» أو«عرب التنجور»، وهم عنصر من البربر أو العرب، وقد خالط هؤلاء شعب «الداجو» وصاهروهم، ونتج عن ذلك وجود جنس مختلط يُسمَّى شعب الفور استطاع أن يصل إلى الحكم.
    كان أول السلاطين المولدين من «الداجو» «والتنجور» هو«أحمد المعقور» الذي تزوج من ابنة ملك «دارفور» الوثنى، بعد أن أثبت جدارته في الإشراف على شئون بيت الملك، وقد اتخذه الملك مستشارًا، ولما لم يكن للملك أبناء ذكور، فقد زوج ابنته لأحمد المعقور، وعينه خليفة له، فتأسست بذلك أول سلطنة إسلامية في «دارفور».
    ولقد اقترنت إصلاحات السلطان «أحمد» وأولاده من بعده بنشاط ملحوظ في نشر الدعوة الإسلامية، على أن «دارفور» لم تدخل في الإسلام حقا إلا نتيجة جهود أحد ملوكها وهو«سليمان سولون» الذى وصل إلى الحكم نتيجة لإحدى الهجرات العربية التي وفدت على «دارفور» منحدرة من «وادى النيل» في القرن الخامس عشر الميلادي وأصهر هؤلاء العرب إلى سلاطين «الفور»، كما أصهروا إلى ملوك «النوبة» من قبل.
    وكان «سليمان سولون» وليد هذه المصاهرة، وتمكن من اعتلاء عرش «دارفور» (849 - 881هـ = 1445 - 1476م)، وفتح البلاد للهجرات العربية، فوفدت قبائل «الحبانية» و«الرزيقات» و«المسيرية» و«التعايشة» و«بنى هلبة» و«الزيادية» و«الماهرية» و«المحاميد» و«بنى حسين» وغيرهم، وبفضل هؤلاء العرب المهاجرين إلى «دارفور»، اصطبغت السلطنة بالصبغة الإسلامية الواضحة، وعمد السلطان «سليمان سولون» إلى تنشيط الحركة الإسلامية، عن طريق استدعاء الفقهاء من الشرق ليعلِّموا الناس أصول دينهم، كما شجع التجارة وأسس المساجد والمدارس.
    وبدأت الدولة تتسع، فامتد سلطانها على «كردفان» في عهد السلطان «تيراب» (1768 - 1787م)، وبلغت أقصى اتساعها، فكان حدها من الشمال «بئر النترون» في الصحراء الكبرى، ومن الجنوب «بحر الغزال»، ومن الشرق «نهر النيل»، ومن الغرب منطقة «واداى».
    وقد وصل نفوذ الدولة أقصاه في عهد السلطان «عبدالرحمن الرشيد» (1192 - 1214هـ = 1778 - 1799م)، الذي نقل العاصمة إلى مدينة «الفاشر»، واتصل بالسلطان العثمانى واعترف بسيادته، فمنحه لقب «الرشيد».
    وفى عهد خلفاء «عبدالرحمن الرشيد» كان من الممكن أن تتسع السلطنة إلى آفاق أوسع لولا التوسع المصرى في القرن التاسع عشر الميلادى، ذلك التوسع الذي قضى على هذه السلطنة عام (1292هـ = 1875م) في عهد الخديوى «إسماعيل».

    واصطبغت هذه السلطنة بالصبغة الإسلامية الواضحة؛ حيث عمل سلاطينها على ربط بلادهم بالعالم الإسلامي المعاصر، وتوثقت به صلاتهم الثقافية والدينية، فوصل طلاب «دارفور» إلى «مصر» والتحقوا بالأزهر، حيث أنشئ لهم رواق خاص بهم.


    وكان سلاطين «دارفور» رغم ندرة أخبارهم ينهجون نهجًا إسلاميا، فيلتزمون بأحكام الكتاب والسنة، ويحرصون على تحرى العدل في أحكامهم، كما حرصوا على تشجيع العلماء ومنحهم الهدايا، وعملوا على نشر العلم في بلادهم، ويذكر «التونسى» أخبارًا كثيرة عن العلماء والفقهاء الذين وفدوا على «دارفور» لما وجدوه فيها من تشجيع وعدالة وكرم واحترام.


    ومن مظاهر ارتفاع مكانة العلماء في سلطنة «دارفور» الإسلامية أن مجلس السلطان كان لايتم إلا بحضورهم، وكانوا يجلسون عن يمينه، ويجلس الأشراف وعظماء الناس عن يساره، وعند موت السلطان واختيار سلطان جديد كان هؤلاء العلماء يدخلون ضمن مجلس الشورى الذى ينعقد لهذا الغرض، وإذا حدث تنازع فإنه لايتم حسمه إلا على أيديهم، وكان السلاطين يكثرون من الإنعام عليهم ويقطعونهم الإقطاعات الواسعة حتى يتفرغوا للعلم والدرس، ولم يكن هذا التشجيع وقفًا على السلاطين وحدهم، فقد شارك فيه الأهالى؛ حيث كان سكان القرية يسارعون لمقابلة العلماء الوافدين ويستضيفونهم، كما كانوا يستضيفون الطلبة الغرباء في بيوتهم ويعاملونهم كأبنائهم أو ذوى قرباهم. 


    ومن المظاهر الإسلامية التي وضحت في سلطنة «دارفور» أن سلاطينها كانوا يتلقبون بألقاب إسلامية مثل «أمير المؤمنين»، و«خادم الشريعة»، و«المهدى» و«المنصور بالله»، كما كانوا يحرصون على النسب العربى كعادة الحكام في كل ممالك «السودان»، كما أن أختامهم التي يختمون بها كتبهم ورسائلهم كانت تحمل آية من القرآن، وكانوا يحرصون على إرسال محمل الحرمين الشريفين كل عام إلى «مكة» و«المدينة»، فكانت قافلة المحمل ترسل إلى «مصر» محملة بالبضائع، مثل ريش النعام وسن الفيل والصمغ وغير ذلك من منتجات البلاد، فتباع ويتكون من ثمنها نقود الصرة التي تحملها القافلة المصاحبة لقوافل الحجاج المصريين إلى الأراضى المقدسة، وهكذا نرى أن الحياة الإسلامية كانت زاهرة في سلطنة «دارفور» الإسلامية.


    الطابع الإسلامي والثقافة العربية في سودان وادى النيل:

    يمثل عصر «سلطنة الفونج» في «سنار» أو في «وسط السودان» و«سلطنة دارفور» في «غربى السودان» عصر الازدهار الإسلامي في ذلك الوقت. فقد امتزجت التقاليد الإسلامية الوافدة بالتقاليد المحلية سواء في نظم الحكم أو في الحياة الاجتماعية أو الثقافية، ونشأ لون جديد من الحضارة إسلامى الصورة سودانى الطابع مثلما حدث في «بلاد السودان الغربى» والأوسط (غرب إفريقيا).

    فالفونج عملوا على إقامة الشريعة الإسلامية لكنهم انتهجوا في الحكم نهجًا محليا صرفًا، يتميز باللامركزية الصرفة؛ حيث سمحوا لأمراء المحليين بالاستقلال الذاتى، ولم يكن سلطان سنار يحتفظ بأكثر من تعيين الأمراء أو فرض الإتاوة، وتظهر التقاليد المحلية في طريقة التتويج أو التعيين حين يحضر الأمير إلى «سنار» ويحتفل به السلطان على «الككر» (أى كرسى العرش) ويلبسه طاقية لها ذُؤابتان عن اليمين والشمال محشوتان بالقطن كأنهما قرنان، ويمنحه سيفًا، وهى تقاليد نوبية قديمة، ثم يذهب الأمير بعد انتهاء مراسم التتويج إلى مكان معين في انتظار دابة تخرج من الأرض يتفاءل بخروجها، إلى غير ذلك من التقاليد السودانية.


    والحياة الإسلامية في «دارفور» خضعت لهذا التطور نفسه، فقد تمسك السلاطين بالكتاب والسنة وطبقوا الشريعة الإسلامية تطبيقًا تاما، ولكنهم لم يهملوا التقاليد المحلية التي تمثلت في قانون «دالى»، وهو مجموعة من الأحكام العرفية كان يقوم بتنفيذها حكام الأقاليم والقاضى الأعظم، وهو كبير الخصيان الملقب بأبى شيخ.


    وهذا القانون ينص على وراثة الملك وعلى إقامة الحدود ودفع الغرامات من الأبقار التي يملكونها بكثرة، وكان لهم تقاليد خاصة في جلوس السلطان على كرسى العرش، ففى يده اليمنى صولجان، وفى اليسرى سيف مستقيم، وعلى جنبه الأيسر سيف محدب، وفي الدخول عليه يخلع الداخل الطاقية والسلاح ويلقى بنفسه على الأرض 
    ويحبو على ركبتيه ويديه كالسلحفاة. 

    أما في ميدان الثقافة فلم يكن للسودان ثقافة قديمة، كما كان في «مصر» وبلاد «الشام» و«العراق»، ولذلك كانت ثقافة «السودان» عربية إسلامية خالصة، لكنها تأثرت بعاملين: 

    الأول: ضعف النهضة الإسلامية في هذا العصر عمومًا، وغرق الأمة في الدراسات الصوفية التي انتشرت طرقها في شتى بلدان العالم الإسلامي؛ ولقيت في «السودان» جوا ساعدها على النمو والازدهار.

    فقد شهد «السودان» في هذا العصر كثيرًا من الحروب الداخلية، التي كانت تسيطر على البلاد وتعمل على تمزيقها، بالإضافة إلى أن العرب الذين هاجروا إلى «السودان» كان معظمهم من الفارين من الدول الإسلامية بسبب التقلبات السياسية، وكان هؤلاء قد كرهوا الحياة السياسية، مما ولَّد في نفوسهم ونفوس السودانيين رغبة شديدة في الحياة، بعيدًا عن مزالق السياسة فلبوا دعوة شيوخ الصوفية في ترحاب وحماس شديدين، وانتظموا في الخلايا والزوايا، وكان لذلك أثر كبير في التقريب والربط بين القبائل والأجناس في بلاد «السودان».
    المصدر
    الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي

    نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي