كيف يتعرف الجهازُ
المناعي على الجرائيم ....
لقد طور الجهاز المناعي البشري عددا من العمليات البارعة التي تتيح له
مقاومة الغزاة الغرباء، علاوة على عدم مهاجمة الجسم الذي يُعيله.
تمتلك الكائنات الحية آليات متباينة للتمييز بين ذاتها وبين كل شيء آخر. فعلى سبيل المثال، إن عددا كبيرا من النباتات تمتلك غُلُفًا خارجية صُلْبَة (قاسية) لا تحميها ضد الغزاة فحسب إنما تعيّن حدود النبات الخارجية. وتمتلك الخمائر yeasts جينات من النمط التزاوجي mating-type تُكَوِّد(1) (ترمز) بروتينات تمنع التزاوج بين الخلايا المتماثلة. وتوجد لدى الاسفنجيات مجموعة من الجينات يمكن استخدام نتاجها في كشف المستعمرات الغريبة ومن ثم طردها.
لقد طور جسم الإنسان واحدة من أكثر الآليات تفصيلا للتمييز بين الغزاة وبين الذات. إن على خلايا الجهاز المناعي ـ أي اللِّمفاويات والبلعميات macrophages والخلايا الأخرى ـ أن تتعلم تحمُّل كل نسيج وكل خلية وكل بروتين يوجد في الجسم، وعليها أن تكون قادرة على تمييز الهيموغلوبين الموجود في الدم عن الأنسولين الذي يفرزه البنكرياس (المعثكلة) عن الخِلْط الزجاجي الذي تحويه العين عن كل شيء آخر. وعلى هذه الخلايا أيضا أن تتدبر أمر مقاومة الأنواع المختلفة التي لا حصر لها من الكائنات الحية الغازية، علاوة على عدم مهاجمة الجسم نفسه.
ومازال المناعيون مشغولين بمسألة الكيفية التي يتعلم بها الجسم تحمل ذاته، ولكنهم لم يكتشفوا إلا في العقد الماضي تقريبا تفاصيل ما يمنع أهم اللمفاويات ـ ونعني بذلك الخلايا التائية والخلايا البائية ـ من مهاجمة عوائلها (أثويائها). إن كثرة من اللمفاويات غير الناضجة تمتلك إمكانية الاستجابة لنتاج الذات، وبذلك تشكل تهديدا للذات. إن الجسم يحاول أن يخلِّص نفسه من هذه الخلايا كلها بلجوئه إلى عدد من الآليات الحاذقة. فإذا ما تفاعلت خلية مناعية ما مع نتاج الذات في الوقت الذي تكون فيه آخذة بالتنامي في التوتة (الغدة التيموسية / الصعترية) أو في نقي (نخاع) العظم فإنها تُقتل عادة أو يُبطل فعلها. وتلقى اللمفاوية الناضجة المصير نفسه عادة إذا ما استجابت لنتاج الذات ولم تتلقَّ رسالة كيميائية ثانية. إن لهذه الاستراتيجيات الأساسية التي يستخدمها الجسم للتخلص من الخلايا ذاتية التفاعل (متفاعلة الذات) self-reacting cells اختلافات كثيرة، ذلك أنه توجد أنماط متباينة وعديدة من اللمفاويات، وكثرة من الأنواع المختلفة لنتاج الذات.
ولكن على الرغم من هذه الإجراءات الوقائية من قِبَل الجهاز المناعي فإن بعض اللمفاويات ذاتية التفاعل لا يُبطَل فعلها أو لا تُقتل، فيمكنها أن تسبب واحدة من علل كثيرة تعرف بأمراض المناعة الذاتية. ويدرك علماء المناعة جيدا أنهم إذا ما فهموا آليات التحمل كلها فربما أمكنهم منع وقوع أمراض المناعة الذاتية. وعلاوة على ذلك، فإنه يمكن لأمثال هذا التبصر النافذ أن يساعد الجراحين في بحثهم المستديم عن مواد يمكنها أن تمنع الجهاز المناعي أن ينبذ النسج المغترسة كالكِلْيَة والقلب والرئة.
وتمتلك الفقاريات العليا طرائق كثيرة للكشف عن الغزاة وقتلها. وتكون بعض هذه الطرائق لانوعية (غير مُميِّزة) نسبيا. وترتكز على واقع أن مجموعات من الكائنات الحية الخامجة (المعدية) تصطنع موادّ كيميائية لا تنتجها الفقاريات العليا بكميات كبيرة. فعلى سبيل المثال، بإمكان الثدييات أن تكتشف وجود البكتيريا (الجراثيم) الغازية، ذلك أن البكتيريا تنتج پپتيدات تبدأ بحمض أميني غير عادي هو فورميل الميثيونين، في حين أن الثدييات تنتج كميات ضئيلة فقط من هذه الپپتيدات.وفعلا، إن وجود تراكيز عالية من الپپتيدات التي يستهلها فورميل الميثيونين في الثدييات يجتذب خلايا الدم البيض المسماة بالعَدِلات (النتروفيلات) والتي تقوم عندئذ بالتهام البكتيريا التي تنتج هذه الپپتيدات. وبالمثل، يمكن للثدييات أن تكتشف بعض الڤيروسات (الحُمات)، ذلك أن الڤيروسات تصطنع كميات من الرنا RNA ذي الطاقين (الشريطتين) strands، أكبر كثيرا مما تنتجه الثدييات. ووجود كميات كبيرة من الرنا مزدوج الطاق يستفزّ خلايا الثدييات لتنتج بروتينات تعرف بالإنترفِرونات التي تحفز بدورها سلسلة من التفاعلات التي تساعد العائل على مقاومة المزيد من الخمج الڤيروسي.
وعلى الرغم من أن هذه الاستجابات اللانوعية للمواد الكيميائية التي تصطنعها البكتيريا والڤيروسات هي جزء حاسم بصورة مطلقة من وظيفة الجهاز المناعي، فإن الفقاريات تتطلب أيضا آليات نوعية (متخصصة) لتتعرف الغزاة تحديدا. فعلى الجهاز المناعي أن يكون قادرا على تعرف نتاجات غريبة تكون كيميائياتها مختلفة اختلافا طفيفا جدا عن جزيئات الجسم ذاته.
لقد طور الجهاز المناعي ثلاث طرائق شديدة التعقيد يتعرف بها المواد الكيميائية الغريبة، أو ما يُسمى المستضدات (الأنتيجِنات). إن أساس هذه الآليات الثلاث هو الأنواع الثلاثة مما يعرف بالمستقبِلات البروتينية التي توجد على سطح اللمفاويات. وتتطلب الطريقة الأولى وجود الخلايا البائية التي تمتلك مستقبلات تعرف بالگلوبُلينات المناعية، في حين تتطلب الطريقة الثانية وجود الخلايا التائية التي تمتلك مستقبلات تسمى ألفا-بيتا. وتستخدم الطريقة الثالثة الخلايا التائية التي تمتلك البروتين غاما-دلتا.
ويلتصق عدد كبير من المستقبلات بسطح كل لمفاوية من اللمفاويات، وفي ظروف معينة فإنها ترتبط بالمستضدات. ويتألف المستقبِل الواحد من سلسلتين متباينتين متعددتي الپپتيدات. فالگلوبُلين المناعي يتكون مما يعرف بالسلسلتين الخفيفة والثقيلة، أما البروتين ألفا-بيتا فيتألف من السلسلة ألفا والسلسلة بيتا، في حين أن البروتين غاما-دلتا يتكون (كما يمكن لك أن تخمن مسبقا) من السلسلة غاما والسلسلة دلتا. ومن الممكن أن تتباين كل سلسلة في تتابع مكوناتها من خلية لأخرى. فعلى سبيل المثال، إن السلسلتين ألفا و بيتا لخلية تائية معينة تختلفان يقينا عن مثيلتيهما في أي خلية تائية أخرى. وبناء على ذلك، فإن مستقبلات خلية تائية معينة يُحتمل أن ترتبط بمجموعة من المواد تختلف عن مجموعة المواد التي ترتبط بأي خلية تائية أخرى. ويمتلك الإنسان نحو مليون مليون خلية تائية، وبالتالي لديه عدد كبير متباين من جزيئات ألفا-بيتا المتاحة لتعرف المواد الغريبة.
وبالفعل، فإذا ما اعتبرنا العدد الهائل من مستقبلات ألفا-بيتا للخلايا التائية، وكذلك العدد الكبير من أنواع جزيئات الگلوبُلين المناعي للخلايا البائية، وأيضا كثرة أعداد المستقبلات غاما-دلتا للخلايا التائية، فإن عدم تعرّف أي من هذه اللمفاويات لأي من جزيئات نتاج عائلها يُعتبر معجزة ليست بالقليلة. لقد أثارت هذه الظاهرة الجديرة بالملاحظة فضول الباحثين لعقود من الزمن، فوُضِع الكثير من النظريات لتفسير كيف أن الجهاز المناعي للإنسان يتعلم تحمل خلايا الجسم؟.
وكانت إحدى الأفكار المبكرة هي أن الحيوانات، ببساطة، لا تستطيع أن تصطنع مستقبلات لمفاوية ذاتية التفاعل. وعلى وجه الخصوص، إنه ليس من المحتمل أن يمتلك الإنسانُ الجينات الضرورية لتكوين مستقبلات ألفا-بيتا يمكنها أن تتفاعل مع البروتينات الآدمية. لقد أدرك علماء المناعة منذ سنوات عديدة أن هذا التفسير غير صحيح. ونحن نعلم في الوقت الحاضر أنه نظرا لأن تراكيب المستقبلات وبِناها تتعين إلى حد ما بطريقة عشوائية، فمن المحتمل أن ترتبط بعض المستقبلات بالمواد الكيميائية لعائلها.
وتدخل العشوائية من سبيلين على الأقل: أحدهما هو أن مستقبلات اللمفاويات تُصطنع بانضمامات عشوائية لقطع متخصصة من الجينات. فعلى سبيل المثال، تُصطنع السلسلتان ألفا وبيتا للخلية التائية من مزج عشوائي لقطع تعرف بالقطعة V-ألفا و J-ألفا وV -بيتا و D-بيتا وJ -بيتا. والسبيل الآخر هو إيلاج قطع قصيرة عشوائية من الدنا DNA في الجينات المتراتبة الخاصة بالمستقبل ألفا-بيتا. وهكذا، فإن الكائن الحي لا يمتلك ضبطا مطلقا لتسلسل الحموض الأمينية المكونة للمستقبل.
إن الضبط يجب أن يمارس بطريقة أخرى، وفي مرحلة ما مختلفة. لقد كان <D.R.أُوِن> (في معهد كاليفورنيا للتقانة) أحد الباحثين الأوائل الذين اختبروا هذه الفرضية. فقد كان يدرس عام 1945 وراثة أنماط الدم عند الأبقار فوجد أن الأبقار التوائم التي تقاسمت مشيمةً واحدة كانت تمتلك، غالبا، نمطا دمويا واحدا. وقد لوحظ هذا الترابط حتى في إحدى الحالات حيث أتت التوائم من آباء مختلفة. واستنتج أُوِن أن الترابط بين أنماط الدم كان نتيجة تبادل اللمفاويات وخلايا الدم الأخرى وهي داخل الرحم. وعلاوة على ذلك، فقد اقترح الباحث أن هذا التبادل المبكر قد حال بين الأبقار وبين رفض إحداها دماء الأخرى. وفيما بعد أوضح السير <B.P.مداوار> و<E.R .بيلينگام> و <L.برنت> (في المعهد الوطني للبحوث الطبية بلندن) أنه إذا ما تم نقل الخلايا الدموية من فأر بالغ إلى فأر وليد لا يمت إليه بقرابة، فإنه يمكن للفأر الوليد أن يتقبل ـ في مراحل حياته التالية ـ طُعْما يؤخذ من الفأر البالغ، ومن ثم فإن إدخال الخلايا الدموية عند الولادة يمكن أن يؤثر في مقدرة الفرد على تقبل ليس الدم فحسب وإنما الجلد أيضا.
الأمر الأكثر أهمية هو أن هذه الدراسة وبحوث أُوِن قد أوصلت إلى الاستنتاج العام نفسه، ألا وهو أن الجهاز المناعي لا يولد ومعه التعليمات كلها التي يحتاج إليها لتعرّفه نتاجات عائله، ولكنه يتعلم ما هو ذاتٌ وهو آخذ بالتنامي.
وكانت إحدى الأفكار المبكرة التي طرحت لتفسير كيف يتعلم الجهاز المناعي تحمل الذات قد عرضت من قبل <J.ليدربرگ> الذي يعمل حاليا في جامعة روكفلر. ففي عام 1959 اقترح هذا الباحث أن اللمفاويات غير الناضجة لا يمكنها أن تتفاعل مع المستضد بالطريقة نفسها التي تتفاعل بها اللمفاويات الناضجة. فعادة إذا ما ارتبط شيء ما بالگلوبُُلين المناعي لخلية بائية ناضجة، فإن اللمفاوية تتحول إلى خلية مفرزة للضد antibody. وإذا ما ارتبط جزيء ما بمستقبلات الخلية التائية الناضجة، فإن هذه الخلية تصبح إما خلية مفرزة للسيتوكين أو خلية قاتلة. وافترض ليدربرگ أنه إذا ما ارتبط مستضد ما بمستقبِلٍ لخلية غير ناضجة، فإن الخلية يمكن أن تموت عوضا عن أن تصبح خلية فاعلة.
وتقدم فرضية ليدربرگ، التي تعرف حاليا بنظرية الحذف (الخَبْن) النسيلي clonal deletion theory، آلية لإزالة اللمفاويات التي تفاعلت مع نتاجات الذات. وتعمل هذه الآلية على النحو التالي: يكون إنتاج التائيات والبائيات إنتاجا مستمرا طوال حياة الفرد، هذا على الرغم من أن إنتاج الخلايا التائية يتباطأ بعد اليَفَع. ولكن بغض النظر عن المرحلة التي تُنتَج فيها الخلايا البائية و التائية فإنها تتنامى دائما وهي محاطة ببحر من المواد التي ينتجها العائل. فوفقا لهذه النظرية تُدمَّر الخلايا غير الناضجة التي تتعرف مستقبلاتُها نتاجاتِ الذات. ونتيجة لذلك، فإن اللمفاويات غير ذاتية التفاعل فقط هي التي تتنامى حتى مرحلة النضج. وبلا ريب، فإن اللمفاويات غير الناضجة ستموت أيضا إذا ما ارتبطت بمستضد غريب، ولكن الاستجابة المناعية ستنجز من قِبَل تلك اللمفاويات التي نضجت قبل وقوع الخمج.
وفي زمن لاحق على اقتراح نظرية الحذف النسيلي أتى الباحثون بتفسيرين آخرين معقولين حول لماذا يكون الجهاز المناعي متحمِّلا لعائله؟ وكان أحد الاقتراحين أنه يمكن إخماد اللمفاوية المتنامية إخمادا دائما عوضا عن موتها وذلك عندما ترتبط مستقبلاتها (يصف علماء المناعة اللمفاويةَ الخامدةَ بأنها لمفاوية «مُعَطَّلَة» anergic. وينص الافتراض الآخر على أنه يمكن الاحتفاظ بالخلايا التائية والبائية ذاتية التفاعل مقيدةً (موقوفة) بوساطة خلايا خاصة تعرف بالخلايا الكابتة.
وظل الباحثون يجاهدون سنوات عديدة لتمحيص هذه الفرضيات الثلاث، لأنه من الواضح أن اللِّمْفاوِيّات تتعرف النُّسُج الغريبة بإجادة عالية. فعلى سبيل المثال، يرفض جسم الإنسان ـ وبسرعة كبيرة ـ طُعما جلديا أتى من شخص لا يمتّ إليه بقرابة، في حين يتقبل الفرد نسيجا جلديا اغتُرس من إحدى مناطق الجسم إلى منطقة أخرى منه. وبالمماثلة، تعجز اللمفاويات في طبق الزرع culture dish عن أن تُنَشَّط (تفعل) activate من قِبَل خلايا أخرى أُخذت من عائلها نفسه، في حين أنها تتفاعل بعنف مع لمفاويات أو خلايا أخرى أتت من فرد آخر. ومازالت القضية المعلقة باقية: هل يعجز الجهاز المناعي عن أن يستجيب لنتاجات الذات لأن اللمفاويات المحتمل تفاعلها هي ببساطة غير موجودة، أو لأنها معطلة، أو لأنها مكبوتة من قبل خلايا أخرى؟
من أجل إيجاد حل لهذه المسألة حاول الباحثون استنباط طرائق لتعيين هوية اللمفاويات التي تعرفت مستضدا معينا لكنها لم تستجب بالضرورة عن طريق الانقسام. وتبين أن تطوير هذه التقانات مهمة رهيبة، فإذا لم يسبق للخلايا التائية والبائية لحيوان ما أن تعرضت لمستضد نوعي، فإن جزءا ضئيلا فقط من اللمفاويات يجب أن يكون لديه القدرة على التفاعل مع المستضد. إن «تواتر» frequency الخلايا ذاتية التفاعل (كما يقول علماء المناعة عادة) هو من واحد إلى مليون تقريبا. وبالفعل، فإن التواتر على درجة من الضآلة بحيث يصبح من المستحيل تمييز اللمفاويات القليلة التي يحتمل أن تتعرف نتاجات الذات عن اللمفاويات الكثيرة التي لا تتعرفها.
ولكن على الرغم من ذلك، فإن الباحثين طوروا وسيلتين تجريبيتين لتطويق هذه المعضلة، تتطلب إحداهما نمطا خاصا من المستضد عرف بالمستضد الفائق super antigen، في حين أن الوسيلة الأخرى تعتمد على حيوانات تم تغييرها وراثيا، ومنها ما يدعى بالفئران المحورة جينيا transgenic. ويستحق كل من تقانة المستضد الفائق والتجارب التي تستخدم فيها الفئران المحورة جينيا، وصفا فيه بعض التفصيل.
ويتوقف ارتباط مستضد فائق، أو مستضد، بلمفاوية أساسا على تركيب المستقبل وبنيته. فالمستقبل ألفا-بيتا هو، على سبيل المثال، تجمع عشوائي بعض الشيء للقطعتين (الجزءين) segments -V ألفا وV-بيتا. ويكون المستقبِل مصمما أساسا ليتعرف الپپتيدات الغريبة، أي المستضد الناجم عن تحطيم (حلّ) بروتينات الكائنات الغازية. بيد أن المستقبل يرتبط فقط بالپپتيدات الغريبة التي ارتبطت في الوقت ذاته بأحد بروتينات معقد التوافق النسيجي الكبير major histocompatibility complex MHC، وهي جزيئات متخصصة توجد على سطوح الخلايا العادية. وبقدر ما يمكن للباحثين أن ينبئونا، فإن جميع القطع المتغيرة (المتحولة) للمستقبِل ألفا-بيتا تلعب دورا ما كي تربط معًا بروتين المعقد MHC وأسيره الپپتيد الغريب. ومن أجل أن تتعرف مستضدا معينا، فإن على الخلية التائية أن تمتلك مستقبلا متوافقا تماما مع القطعتين المتغيرتين.
وللمستضدات الفائقة قصة مختلفة. فهي ترتبط، مثل مثيلاتها الاعتيادية، بنمط خاص من جزيئات المعقد MHC، ولكنها ترتبط بعدئذ بقطعة معينة من V-بيتا من المستقبل ألفا-بيتا، وذلك بغض النظر تقريبا عن بنية سائر المستقبل. وبما أن عدد أنماط أجزاء V-بيتا هو عدد ضئيل مقارنا بعدد المستقبلات ألفا-بيتا المختلفة، فإن عددا كبيرا من الخلايا التائية يكون أقدر على تعرف مستضد فائق خاص منها على تعيين هوية مستضد عادي معين. إن مجموع القطعV -بيتا المختلفة في الفأر، على سبيل المثال، يصل إلى 20 قطعة. وهكذا، فمن الممكن أن نجد أن V-بيتا من نوع خاص في واحدة تقريبا من بين كل 20 خلية تائية تمتلك مستقبلات ألفا-بيتا.
والأمر الأكثر أهمية، هو أنه بسبب استجابة عدد هائل من الخلايا التائية لمستضد فائق نوعي، يمكن للباحثين أن يراقبوا التفاعل. وبغية الوصول إلى ذلك، فإنهم يحصلون أولا على ضد يستطيع الارتباط بالهدف V-بيتا الخاص بمستضد فائق، ويوسم الضد عندئذ بجزيء يتألق fluoresce تحت الضوء فوق البنفسجي. وهكذا، فإن الضد المتألق سيرتبط بالخلايا التائية التي تستجيب للمستضد الفائق، ويستطيع الباحثون عندئذ تعيين هُوية الخلايا باستخدامهم إما المجهر وإما فارز (مصنِّف) خلايا مفعَّل تألقيا fluorescent-activated cell sorter.
ولاختبار هذه التقانة، استخدم الباحثون في بداية الأمر مستضدا فائقا ينتجه ڤيروس ورم الثدي mammary tumor virus MTV) لدى الفأر. وتُخْمَج الفئران بالڤيروس عبر لبن أمهاتها. ويجتاح الڤيروس لمفاويات الفأر باصطناعها (تركيبها) مستضدا فائقا وبتنشيطها اللمفاوية. إن ڤيروس ورم الثدي لدى الفأر، شأنه في ذلك شأن الڤيروس الذي يسبب الإيدز (AIDS)، هو ڤيروس مغاير (قهقري) retrovirus. وتحتوي هذه الڤيروسات على جينات تتألف من الرنا، ولكنها تتكاثر عن طريق اصطناعها نسخا من الدنا بدءا من الرنا الخاص بها. وتُغرَز نسخ الدنا هذه في دنا الخلايا المخموجة، وينتج الدنا الڤيروسي عندئذ رنا وبروتينات الڤيروس، وتتجمع هذه المواد لتشكل ڤيروسات خامجة (معدية) جديدة.
ويندر أن تقوم الڤيروسات المغايرة بخمج الخلايا التي تنتج النطاف (الحيامن) sperm والبيوض. فإذا ما حدث ذلك، أمكن للڤيروس أن يصبح جزءا من دنا الأنسال، ويكف عندئذ عن أن يغدو كائنا مُخمِجا. وفي الحقيقة، فإن الفئران كلها تقريبا تشتمل على نوع ڤيروسي واحد أو أكثر من ڤيروسات ورم الثدي، متكاملا(2) (مُدْمجا) integrant في الدنا الخاص بها. وتنتج هذه المتكاملات (المُدْمَجات) الڤيروسية عندئذ بروتينات هي (بكل قصد العائل وهدفه) من نتاجات (منتجات) الذات. وتُصطنع البروتينات الڤيروسية اصطناعا مستمرا مدى حياة الحيوان، تماما مثل بروتينات الذات الأصيلة.
لقد استخدمنا مع زملائنا (في المركز NJC لعلم المناعة وطب التنفس بِدِنْڤر) المستضدات الفائقة التي تنتجها هذه المتكاملات الڤيروسية لنختبر كيف يستجيب الجهاز المناعي لنتاجات الذات، لأن البروتينات التي تركّبها المتكاملات تعد، فيما يتعلق بالفأر نفسه، نتاجات ذاتية. فبدأنا عام 1988، وبدأ كذلك عدد من الفرق البحثية الأخرى، بتفحص تأثيرات مستضد فائق ينتجه النمط MTV-7، وهو ذرية (سلالة) strain من ڤيروس ورم الثدي اندمجت طبيعيا في دنا بعض الفئران. ويتفاعل هذا المستضد الفائق مع قطع معينة من V-بيتا لمستقبلات الخلايا التائية للفأر. وتحديدا فإن المستضد الفائق يرتبط بالقطع التي تعرف بالرموز: V-بيتا 6، V-بيتا 7، V-بيتا 8.1 وV-بيتا 9.
لقد ركزنا اهتمامنا، متعاونين مع <U.ستيرز> (الذي كان يعمل حينذاك في معهد بازل لعلم المناعة)، على تأثيرات المستضد الفائق MTV-7 في القطعة V-بيتا 8.1 ، فوجدنا في الفأر الذي يكون دنا خلاياه خاليا من MTV-7، أن نسبة تصل إلى 8 بالمئة من الخلايا التائية لديها القطعة V-بيتا 8.1 كجزء من مستقبلاتها. وفي مقابل ذلك، فإن الفئران التي يتضمن دنا خلاياها الجين MTV-7 لا تُؤوي أيا من الخلايا التائية الناضجة التي تمتلك V-بيتا 8.1 . وفي الوقت نفسه نشر فريق بحث سويسري ضمّ <R.H.ماكدونالد> (من معهد لودکيگ لبحوث السرطان في لوزان) و<M.R.زينكرناجل> و<H.هنگارتنر> (من جامعة زوريخ) أن الخلايا التائية التي تحمل القطعة V-بيتا 6 هي مفقودة أيضا في الفئران التي يتضمن دنا خلاياها MTV-7. كما توصل مؤخرا <E.پالمر> وزملاؤه (في المركز NJC) إلى نتائج مماثلة بشأن القطعة V-بيتا 9، كما اكتشفنا الشيء نفسه بشأن الجزء V-بيتا 7.
لقد أظهرت هذه التجارب كلها أن وجود المستضد الفائق الذي ينتجه النمط MTV-7 المتكامل، يؤدي على نحو ما إلى اختفاء الخلايا التائية التي تستطيع التفاعل مع المستضد الفائق. وهكذا، فإن الخلايا التائية التي تستطيع، في هذه الحالة، أن تتعرف نتاجات الذات لم تُخمدَ ولم تُكبَت من قِبَل خلايا أخرى. إن الخلايا التائية ببساطة غير موجودة كليا، ولا بد أنها ماتت في مرحلة ما من مراحل تناميها.
وتبدأ الخلايا التائية تناميها كخلايا طليعية precursor cells. وتنشأ هذه الخلايا الطليعية في أثناء المرحلة الجنينية من تنامي الحيوان في الكيس المحي أو في الكبد، في حين أن الحيوانات الفتية ـ وكذلك البالغة ـ تنتج الخلايا الطليعية هذه في نقي عظمها. وتهاجر تلك الخلايا إلى التوتة، حيث تبدأ هناك تعزيز الجينات التي تحوي التعليمات اللازمة لبناء السلاسل ألفا والسلاسل بيتا والبروتينات الأخرى ذات الصلة بِبِنية المُسْتَقْبِل. وإثْر ذلك مباشرة، وبعد أن تبدأ المستقبلات ألفا-بيتا بالظهور على سطوح الخلايا بكميات قليلة، تتحول الخلايا الطليعية إلى خلايا توتية غير ناضجة. وتمر هذه الخلايا عندئذ في مرحلة غامضة من مراحل تناميها توصف بأنها مرحلة الانتقاء الإيجابي positive selection. وفي هذه المرحلة تضيف الخلايا التوتية غير الناضجة إلى سطوحها أعدادا متزايدة من المستقبلات ألفا-بيتا.
على أي حال، وكما اكتشفنا من قبل، فإن الخلية التوتية غير الناضجة تموت في التوتة إذا ما تعرفت المستضد الفائق الذي ينتجه الجين المتكامل MTV-7. ويوضح عدد كبير من التجارب التي أجريت مؤخرا على حيوانات مختلفة أن المستضدات الفائقة تسبب موت الخلايا التوتية غير الناضجة في مرحلة تقع تقريبًا في منتصف طريق تناميها.
لقد طور الجهاز المناعي البشري عددا من العمليات البارعة التي تتيح له
مقاومة الغزاة الغرباء، علاوة على عدم مهاجمة الجسم الذي يُعيله.
تمتلك الكائنات الحية آليات متباينة للتمييز بين ذاتها وبين كل شيء آخر. فعلى سبيل المثال، إن عددا كبيرا من النباتات تمتلك غُلُفًا خارجية صُلْبَة (قاسية) لا تحميها ضد الغزاة فحسب إنما تعيّن حدود النبات الخارجية. وتمتلك الخمائر yeasts جينات من النمط التزاوجي mating-type تُكَوِّد(1) (ترمز) بروتينات تمنع التزاوج بين الخلايا المتماثلة. وتوجد لدى الاسفنجيات مجموعة من الجينات يمكن استخدام نتاجها في كشف المستعمرات الغريبة ومن ثم طردها.
لقد طور جسم الإنسان واحدة من أكثر الآليات تفصيلا للتمييز بين الغزاة وبين الذات. إن على خلايا الجهاز المناعي ـ أي اللِّمفاويات والبلعميات macrophages والخلايا الأخرى ـ أن تتعلم تحمُّل كل نسيج وكل خلية وكل بروتين يوجد في الجسم، وعليها أن تكون قادرة على تمييز الهيموغلوبين الموجود في الدم عن الأنسولين الذي يفرزه البنكرياس (المعثكلة) عن الخِلْط الزجاجي الذي تحويه العين عن كل شيء آخر. وعلى هذه الخلايا أيضا أن تتدبر أمر مقاومة الأنواع المختلفة التي لا حصر لها من الكائنات الحية الغازية، علاوة على عدم مهاجمة الجسم نفسه.
ومازال المناعيون مشغولين بمسألة الكيفية التي يتعلم بها الجسم تحمل ذاته، ولكنهم لم يكتشفوا إلا في العقد الماضي تقريبا تفاصيل ما يمنع أهم اللمفاويات ـ ونعني بذلك الخلايا التائية والخلايا البائية ـ من مهاجمة عوائلها (أثويائها). إن كثرة من اللمفاويات غير الناضجة تمتلك إمكانية الاستجابة لنتاج الذات، وبذلك تشكل تهديدا للذات. إن الجسم يحاول أن يخلِّص نفسه من هذه الخلايا كلها بلجوئه إلى عدد من الآليات الحاذقة. فإذا ما تفاعلت خلية مناعية ما مع نتاج الذات في الوقت الذي تكون فيه آخذة بالتنامي في التوتة (الغدة التيموسية / الصعترية) أو في نقي (نخاع) العظم فإنها تُقتل عادة أو يُبطل فعلها. وتلقى اللمفاوية الناضجة المصير نفسه عادة إذا ما استجابت لنتاج الذات ولم تتلقَّ رسالة كيميائية ثانية. إن لهذه الاستراتيجيات الأساسية التي يستخدمها الجسم للتخلص من الخلايا ذاتية التفاعل (متفاعلة الذات) self-reacting cells اختلافات كثيرة، ذلك أنه توجد أنماط متباينة وعديدة من اللمفاويات، وكثرة من الأنواع المختلفة لنتاج الذات.
ولكن على الرغم من هذه الإجراءات الوقائية من قِبَل الجهاز المناعي فإن بعض اللمفاويات ذاتية التفاعل لا يُبطَل فعلها أو لا تُقتل، فيمكنها أن تسبب واحدة من علل كثيرة تعرف بأمراض المناعة الذاتية. ويدرك علماء المناعة جيدا أنهم إذا ما فهموا آليات التحمل كلها فربما أمكنهم منع وقوع أمراض المناعة الذاتية. وعلاوة على ذلك، فإنه يمكن لأمثال هذا التبصر النافذ أن يساعد الجراحين في بحثهم المستديم عن مواد يمكنها أن تمنع الجهاز المناعي أن ينبذ النسج المغترسة كالكِلْيَة والقلب والرئة.
وتمتلك الفقاريات العليا طرائق كثيرة للكشف عن الغزاة وقتلها. وتكون بعض هذه الطرائق لانوعية (غير مُميِّزة) نسبيا. وترتكز على واقع أن مجموعات من الكائنات الحية الخامجة (المعدية) تصطنع موادّ كيميائية لا تنتجها الفقاريات العليا بكميات كبيرة. فعلى سبيل المثال، بإمكان الثدييات أن تكتشف وجود البكتيريا (الجراثيم) الغازية، ذلك أن البكتيريا تنتج پپتيدات تبدأ بحمض أميني غير عادي هو فورميل الميثيونين، في حين أن الثدييات تنتج كميات ضئيلة فقط من هذه الپپتيدات.وفعلا، إن وجود تراكيز عالية من الپپتيدات التي يستهلها فورميل الميثيونين في الثدييات يجتذب خلايا الدم البيض المسماة بالعَدِلات (النتروفيلات) والتي تقوم عندئذ بالتهام البكتيريا التي تنتج هذه الپپتيدات. وبالمثل، يمكن للثدييات أن تكتشف بعض الڤيروسات (الحُمات)، ذلك أن الڤيروسات تصطنع كميات من الرنا RNA ذي الطاقين (الشريطتين) strands، أكبر كثيرا مما تنتجه الثدييات. ووجود كميات كبيرة من الرنا مزدوج الطاق يستفزّ خلايا الثدييات لتنتج بروتينات تعرف بالإنترفِرونات التي تحفز بدورها سلسلة من التفاعلات التي تساعد العائل على مقاومة المزيد من الخمج الڤيروسي.
وعلى الرغم من أن هذه الاستجابات اللانوعية للمواد الكيميائية التي تصطنعها البكتيريا والڤيروسات هي جزء حاسم بصورة مطلقة من وظيفة الجهاز المناعي، فإن الفقاريات تتطلب أيضا آليات نوعية (متخصصة) لتتعرف الغزاة تحديدا. فعلى الجهاز المناعي أن يكون قادرا على تعرف نتاجات غريبة تكون كيميائياتها مختلفة اختلافا طفيفا جدا عن جزيئات الجسم ذاته.
لقد طور الجهاز المناعي ثلاث طرائق شديدة التعقيد يتعرف بها المواد الكيميائية الغريبة، أو ما يُسمى المستضدات (الأنتيجِنات). إن أساس هذه الآليات الثلاث هو الأنواع الثلاثة مما يعرف بالمستقبِلات البروتينية التي توجد على سطح اللمفاويات. وتتطلب الطريقة الأولى وجود الخلايا البائية التي تمتلك مستقبلات تعرف بالگلوبُلينات المناعية، في حين تتطلب الطريقة الثانية وجود الخلايا التائية التي تمتلك مستقبلات تسمى ألفا-بيتا. وتستخدم الطريقة الثالثة الخلايا التائية التي تمتلك البروتين غاما-دلتا.
ويلتصق عدد كبير من المستقبلات بسطح كل لمفاوية من اللمفاويات، وفي ظروف معينة فإنها ترتبط بالمستضدات. ويتألف المستقبِل الواحد من سلسلتين متباينتين متعددتي الپپتيدات. فالگلوبُلين المناعي يتكون مما يعرف بالسلسلتين الخفيفة والثقيلة، أما البروتين ألفا-بيتا فيتألف من السلسلة ألفا والسلسلة بيتا، في حين أن البروتين غاما-دلتا يتكون (كما يمكن لك أن تخمن مسبقا) من السلسلة غاما والسلسلة دلتا. ومن الممكن أن تتباين كل سلسلة في تتابع مكوناتها من خلية لأخرى. فعلى سبيل المثال، إن السلسلتين ألفا و بيتا لخلية تائية معينة تختلفان يقينا عن مثيلتيهما في أي خلية تائية أخرى. وبناء على ذلك، فإن مستقبلات خلية تائية معينة يُحتمل أن ترتبط بمجموعة من المواد تختلف عن مجموعة المواد التي ترتبط بأي خلية تائية أخرى. ويمتلك الإنسان نحو مليون مليون خلية تائية، وبالتالي لديه عدد كبير متباين من جزيئات ألفا-بيتا المتاحة لتعرف المواد الغريبة.
وبالفعل، فإذا ما اعتبرنا العدد الهائل من مستقبلات ألفا-بيتا للخلايا التائية، وكذلك العدد الكبير من أنواع جزيئات الگلوبُلين المناعي للخلايا البائية، وأيضا كثرة أعداد المستقبلات غاما-دلتا للخلايا التائية، فإن عدم تعرّف أي من هذه اللمفاويات لأي من جزيئات نتاج عائلها يُعتبر معجزة ليست بالقليلة. لقد أثارت هذه الظاهرة الجديرة بالملاحظة فضول الباحثين لعقود من الزمن، فوُضِع الكثير من النظريات لتفسير كيف أن الجهاز المناعي للإنسان يتعلم تحمل خلايا الجسم؟.
وكانت إحدى الأفكار المبكرة هي أن الحيوانات، ببساطة، لا تستطيع أن تصطنع مستقبلات لمفاوية ذاتية التفاعل. وعلى وجه الخصوص، إنه ليس من المحتمل أن يمتلك الإنسانُ الجينات الضرورية لتكوين مستقبلات ألفا-بيتا يمكنها أن تتفاعل مع البروتينات الآدمية. لقد أدرك علماء المناعة منذ سنوات عديدة أن هذا التفسير غير صحيح. ونحن نعلم في الوقت الحاضر أنه نظرا لأن تراكيب المستقبلات وبِناها تتعين إلى حد ما بطريقة عشوائية، فمن المحتمل أن ترتبط بعض المستقبلات بالمواد الكيميائية لعائلها.
وتدخل العشوائية من سبيلين على الأقل: أحدهما هو أن مستقبلات اللمفاويات تُصطنع بانضمامات عشوائية لقطع متخصصة من الجينات. فعلى سبيل المثال، تُصطنع السلسلتان ألفا وبيتا للخلية التائية من مزج عشوائي لقطع تعرف بالقطعة V-ألفا و J-ألفا وV -بيتا و D-بيتا وJ -بيتا. والسبيل الآخر هو إيلاج قطع قصيرة عشوائية من الدنا DNA في الجينات المتراتبة الخاصة بالمستقبل ألفا-بيتا. وهكذا، فإن الكائن الحي لا يمتلك ضبطا مطلقا لتسلسل الحموض الأمينية المكونة للمستقبل.
إن الضبط يجب أن يمارس بطريقة أخرى، وفي مرحلة ما مختلفة. لقد كان <D.R.أُوِن> (في معهد كاليفورنيا للتقانة) أحد الباحثين الأوائل الذين اختبروا هذه الفرضية. فقد كان يدرس عام 1945 وراثة أنماط الدم عند الأبقار فوجد أن الأبقار التوائم التي تقاسمت مشيمةً واحدة كانت تمتلك، غالبا، نمطا دمويا واحدا. وقد لوحظ هذا الترابط حتى في إحدى الحالات حيث أتت التوائم من آباء مختلفة. واستنتج أُوِن أن الترابط بين أنماط الدم كان نتيجة تبادل اللمفاويات وخلايا الدم الأخرى وهي داخل الرحم. وعلاوة على ذلك، فقد اقترح الباحث أن هذا التبادل المبكر قد حال بين الأبقار وبين رفض إحداها دماء الأخرى. وفيما بعد أوضح السير <B.P.مداوار> و<E.R .بيلينگام> و <L.برنت> (في المعهد الوطني للبحوث الطبية بلندن) أنه إذا ما تم نقل الخلايا الدموية من فأر بالغ إلى فأر وليد لا يمت إليه بقرابة، فإنه يمكن للفأر الوليد أن يتقبل ـ في مراحل حياته التالية ـ طُعْما يؤخذ من الفأر البالغ، ومن ثم فإن إدخال الخلايا الدموية عند الولادة يمكن أن يؤثر في مقدرة الفرد على تقبل ليس الدم فحسب وإنما الجلد أيضا.
الأمر الأكثر أهمية هو أن هذه الدراسة وبحوث أُوِن قد أوصلت إلى الاستنتاج العام نفسه، ألا وهو أن الجهاز المناعي لا يولد ومعه التعليمات كلها التي يحتاج إليها لتعرّفه نتاجات عائله، ولكنه يتعلم ما هو ذاتٌ وهو آخذ بالتنامي.
وكانت إحدى الأفكار المبكرة التي طرحت لتفسير كيف يتعلم الجهاز المناعي تحمل الذات قد عرضت من قبل <J.ليدربرگ> الذي يعمل حاليا في جامعة روكفلر. ففي عام 1959 اقترح هذا الباحث أن اللمفاويات غير الناضجة لا يمكنها أن تتفاعل مع المستضد بالطريقة نفسها التي تتفاعل بها اللمفاويات الناضجة. فعادة إذا ما ارتبط شيء ما بالگلوبُُلين المناعي لخلية بائية ناضجة، فإن اللمفاوية تتحول إلى خلية مفرزة للضد antibody. وإذا ما ارتبط جزيء ما بمستقبلات الخلية التائية الناضجة، فإن هذه الخلية تصبح إما خلية مفرزة للسيتوكين أو خلية قاتلة. وافترض ليدربرگ أنه إذا ما ارتبط مستضد ما بمستقبِلٍ لخلية غير ناضجة، فإن الخلية يمكن أن تموت عوضا عن أن تصبح خلية فاعلة.
وتقدم فرضية ليدربرگ، التي تعرف حاليا بنظرية الحذف (الخَبْن) النسيلي clonal deletion theory، آلية لإزالة اللمفاويات التي تفاعلت مع نتاجات الذات. وتعمل هذه الآلية على النحو التالي: يكون إنتاج التائيات والبائيات إنتاجا مستمرا طوال حياة الفرد، هذا على الرغم من أن إنتاج الخلايا التائية يتباطأ بعد اليَفَع. ولكن بغض النظر عن المرحلة التي تُنتَج فيها الخلايا البائية و التائية فإنها تتنامى دائما وهي محاطة ببحر من المواد التي ينتجها العائل. فوفقا لهذه النظرية تُدمَّر الخلايا غير الناضجة التي تتعرف مستقبلاتُها نتاجاتِ الذات. ونتيجة لذلك، فإن اللمفاويات غير ذاتية التفاعل فقط هي التي تتنامى حتى مرحلة النضج. وبلا ريب، فإن اللمفاويات غير الناضجة ستموت أيضا إذا ما ارتبطت بمستضد غريب، ولكن الاستجابة المناعية ستنجز من قِبَل تلك اللمفاويات التي نضجت قبل وقوع الخمج.
وفي زمن لاحق على اقتراح نظرية الحذف النسيلي أتى الباحثون بتفسيرين آخرين معقولين حول لماذا يكون الجهاز المناعي متحمِّلا لعائله؟ وكان أحد الاقتراحين أنه يمكن إخماد اللمفاوية المتنامية إخمادا دائما عوضا عن موتها وذلك عندما ترتبط مستقبلاتها (يصف علماء المناعة اللمفاويةَ الخامدةَ بأنها لمفاوية «مُعَطَّلَة» anergic. وينص الافتراض الآخر على أنه يمكن الاحتفاظ بالخلايا التائية والبائية ذاتية التفاعل مقيدةً (موقوفة) بوساطة خلايا خاصة تعرف بالخلايا الكابتة.
وظل الباحثون يجاهدون سنوات عديدة لتمحيص هذه الفرضيات الثلاث، لأنه من الواضح أن اللِّمْفاوِيّات تتعرف النُّسُج الغريبة بإجادة عالية. فعلى سبيل المثال، يرفض جسم الإنسان ـ وبسرعة كبيرة ـ طُعما جلديا أتى من شخص لا يمتّ إليه بقرابة، في حين يتقبل الفرد نسيجا جلديا اغتُرس من إحدى مناطق الجسم إلى منطقة أخرى منه. وبالمماثلة، تعجز اللمفاويات في طبق الزرع culture dish عن أن تُنَشَّط (تفعل) activate من قِبَل خلايا أخرى أُخذت من عائلها نفسه، في حين أنها تتفاعل بعنف مع لمفاويات أو خلايا أخرى أتت من فرد آخر. ومازالت القضية المعلقة باقية: هل يعجز الجهاز المناعي عن أن يستجيب لنتاجات الذات لأن اللمفاويات المحتمل تفاعلها هي ببساطة غير موجودة، أو لأنها معطلة، أو لأنها مكبوتة من قبل خلايا أخرى؟
من أجل إيجاد حل لهذه المسألة حاول الباحثون استنباط طرائق لتعيين هوية اللمفاويات التي تعرفت مستضدا معينا لكنها لم تستجب بالضرورة عن طريق الانقسام. وتبين أن تطوير هذه التقانات مهمة رهيبة، فإذا لم يسبق للخلايا التائية والبائية لحيوان ما أن تعرضت لمستضد نوعي، فإن جزءا ضئيلا فقط من اللمفاويات يجب أن يكون لديه القدرة على التفاعل مع المستضد. إن «تواتر» frequency الخلايا ذاتية التفاعل (كما يقول علماء المناعة عادة) هو من واحد إلى مليون تقريبا. وبالفعل، فإن التواتر على درجة من الضآلة بحيث يصبح من المستحيل تمييز اللمفاويات القليلة التي يحتمل أن تتعرف نتاجات الذات عن اللمفاويات الكثيرة التي لا تتعرفها.
ولكن على الرغم من ذلك، فإن الباحثين طوروا وسيلتين تجريبيتين لتطويق هذه المعضلة، تتطلب إحداهما نمطا خاصا من المستضد عرف بالمستضد الفائق super antigen، في حين أن الوسيلة الأخرى تعتمد على حيوانات تم تغييرها وراثيا، ومنها ما يدعى بالفئران المحورة جينيا transgenic. ويستحق كل من تقانة المستضد الفائق والتجارب التي تستخدم فيها الفئران المحورة جينيا، وصفا فيه بعض التفصيل.
ويتوقف ارتباط مستضد فائق، أو مستضد، بلمفاوية أساسا على تركيب المستقبل وبنيته. فالمستقبل ألفا-بيتا هو، على سبيل المثال، تجمع عشوائي بعض الشيء للقطعتين (الجزءين) segments -V ألفا وV-بيتا. ويكون المستقبِل مصمما أساسا ليتعرف الپپتيدات الغريبة، أي المستضد الناجم عن تحطيم (حلّ) بروتينات الكائنات الغازية. بيد أن المستقبل يرتبط فقط بالپپتيدات الغريبة التي ارتبطت في الوقت ذاته بأحد بروتينات معقد التوافق النسيجي الكبير major histocompatibility complex MHC، وهي جزيئات متخصصة توجد على سطوح الخلايا العادية. وبقدر ما يمكن للباحثين أن ينبئونا، فإن جميع القطع المتغيرة (المتحولة) للمستقبِل ألفا-بيتا تلعب دورا ما كي تربط معًا بروتين المعقد MHC وأسيره الپپتيد الغريب. ومن أجل أن تتعرف مستضدا معينا، فإن على الخلية التائية أن تمتلك مستقبلا متوافقا تماما مع القطعتين المتغيرتين.
وللمستضدات الفائقة قصة مختلفة. فهي ترتبط، مثل مثيلاتها الاعتيادية، بنمط خاص من جزيئات المعقد MHC، ولكنها ترتبط بعدئذ بقطعة معينة من V-بيتا من المستقبل ألفا-بيتا، وذلك بغض النظر تقريبا عن بنية سائر المستقبل. وبما أن عدد أنماط أجزاء V-بيتا هو عدد ضئيل مقارنا بعدد المستقبلات ألفا-بيتا المختلفة، فإن عددا كبيرا من الخلايا التائية يكون أقدر على تعرف مستضد فائق خاص منها على تعيين هوية مستضد عادي معين. إن مجموع القطعV -بيتا المختلفة في الفأر، على سبيل المثال، يصل إلى 20 قطعة. وهكذا، فمن الممكن أن نجد أن V-بيتا من نوع خاص في واحدة تقريبا من بين كل 20 خلية تائية تمتلك مستقبلات ألفا-بيتا.
والأمر الأكثر أهمية، هو أنه بسبب استجابة عدد هائل من الخلايا التائية لمستضد فائق نوعي، يمكن للباحثين أن يراقبوا التفاعل. وبغية الوصول إلى ذلك، فإنهم يحصلون أولا على ضد يستطيع الارتباط بالهدف V-بيتا الخاص بمستضد فائق، ويوسم الضد عندئذ بجزيء يتألق fluoresce تحت الضوء فوق البنفسجي. وهكذا، فإن الضد المتألق سيرتبط بالخلايا التائية التي تستجيب للمستضد الفائق، ويستطيع الباحثون عندئذ تعيين هُوية الخلايا باستخدامهم إما المجهر وإما فارز (مصنِّف) خلايا مفعَّل تألقيا fluorescent-activated cell sorter.
ولاختبار هذه التقانة، استخدم الباحثون في بداية الأمر مستضدا فائقا ينتجه ڤيروس ورم الثدي mammary tumor virus MTV) لدى الفأر. وتُخْمَج الفئران بالڤيروس عبر لبن أمهاتها. ويجتاح الڤيروس لمفاويات الفأر باصطناعها (تركيبها) مستضدا فائقا وبتنشيطها اللمفاوية. إن ڤيروس ورم الثدي لدى الفأر، شأنه في ذلك شأن الڤيروس الذي يسبب الإيدز (AIDS)، هو ڤيروس مغاير (قهقري) retrovirus. وتحتوي هذه الڤيروسات على جينات تتألف من الرنا، ولكنها تتكاثر عن طريق اصطناعها نسخا من الدنا بدءا من الرنا الخاص بها. وتُغرَز نسخ الدنا هذه في دنا الخلايا المخموجة، وينتج الدنا الڤيروسي عندئذ رنا وبروتينات الڤيروس، وتتجمع هذه المواد لتشكل ڤيروسات خامجة (معدية) جديدة.
ويندر أن تقوم الڤيروسات المغايرة بخمج الخلايا التي تنتج النطاف (الحيامن) sperm والبيوض. فإذا ما حدث ذلك، أمكن للڤيروس أن يصبح جزءا من دنا الأنسال، ويكف عندئذ عن أن يغدو كائنا مُخمِجا. وفي الحقيقة، فإن الفئران كلها تقريبا تشتمل على نوع ڤيروسي واحد أو أكثر من ڤيروسات ورم الثدي، متكاملا(2) (مُدْمجا) integrant في الدنا الخاص بها. وتنتج هذه المتكاملات (المُدْمَجات) الڤيروسية عندئذ بروتينات هي (بكل قصد العائل وهدفه) من نتاجات (منتجات) الذات. وتُصطنع البروتينات الڤيروسية اصطناعا مستمرا مدى حياة الحيوان، تماما مثل بروتينات الذات الأصيلة.
لقد استخدمنا مع زملائنا (في المركز NJC لعلم المناعة وطب التنفس بِدِنْڤر) المستضدات الفائقة التي تنتجها هذه المتكاملات الڤيروسية لنختبر كيف يستجيب الجهاز المناعي لنتاجات الذات، لأن البروتينات التي تركّبها المتكاملات تعد، فيما يتعلق بالفأر نفسه، نتاجات ذاتية. فبدأنا عام 1988، وبدأ كذلك عدد من الفرق البحثية الأخرى، بتفحص تأثيرات مستضد فائق ينتجه النمط MTV-7، وهو ذرية (سلالة) strain من ڤيروس ورم الثدي اندمجت طبيعيا في دنا بعض الفئران. ويتفاعل هذا المستضد الفائق مع قطع معينة من V-بيتا لمستقبلات الخلايا التائية للفأر. وتحديدا فإن المستضد الفائق يرتبط بالقطع التي تعرف بالرموز: V-بيتا 6، V-بيتا 7، V-بيتا 8.1 وV-بيتا 9.
لقد ركزنا اهتمامنا، متعاونين مع <U.ستيرز> (الذي كان يعمل حينذاك في معهد بازل لعلم المناعة)، على تأثيرات المستضد الفائق MTV-7 في القطعة V-بيتا 8.1 ، فوجدنا في الفأر الذي يكون دنا خلاياه خاليا من MTV-7، أن نسبة تصل إلى 8 بالمئة من الخلايا التائية لديها القطعة V-بيتا 8.1 كجزء من مستقبلاتها. وفي مقابل ذلك، فإن الفئران التي يتضمن دنا خلاياها الجين MTV-7 لا تُؤوي أيا من الخلايا التائية الناضجة التي تمتلك V-بيتا 8.1 . وفي الوقت نفسه نشر فريق بحث سويسري ضمّ <R.H.ماكدونالد> (من معهد لودکيگ لبحوث السرطان في لوزان) و<M.R.زينكرناجل> و<H.هنگارتنر> (من جامعة زوريخ) أن الخلايا التائية التي تحمل القطعة V-بيتا 6 هي مفقودة أيضا في الفئران التي يتضمن دنا خلاياها MTV-7. كما توصل مؤخرا <E.پالمر> وزملاؤه (في المركز NJC) إلى نتائج مماثلة بشأن القطعة V-بيتا 9، كما اكتشفنا الشيء نفسه بشأن الجزء V-بيتا 7.
لقد أظهرت هذه التجارب كلها أن وجود المستضد الفائق الذي ينتجه النمط MTV-7 المتكامل، يؤدي على نحو ما إلى اختفاء الخلايا التائية التي تستطيع التفاعل مع المستضد الفائق. وهكذا، فإن الخلايا التائية التي تستطيع، في هذه الحالة، أن تتعرف نتاجات الذات لم تُخمدَ ولم تُكبَت من قِبَل خلايا أخرى. إن الخلايا التائية ببساطة غير موجودة كليا، ولا بد أنها ماتت في مرحلة ما من مراحل تناميها.
وتبدأ الخلايا التائية تناميها كخلايا طليعية precursor cells. وتنشأ هذه الخلايا الطليعية في أثناء المرحلة الجنينية من تنامي الحيوان في الكيس المحي أو في الكبد، في حين أن الحيوانات الفتية ـ وكذلك البالغة ـ تنتج الخلايا الطليعية هذه في نقي عظمها. وتهاجر تلك الخلايا إلى التوتة، حيث تبدأ هناك تعزيز الجينات التي تحوي التعليمات اللازمة لبناء السلاسل ألفا والسلاسل بيتا والبروتينات الأخرى ذات الصلة بِبِنية المُسْتَقْبِل. وإثْر ذلك مباشرة، وبعد أن تبدأ المستقبلات ألفا-بيتا بالظهور على سطوح الخلايا بكميات قليلة، تتحول الخلايا الطليعية إلى خلايا توتية غير ناضجة. وتمر هذه الخلايا عندئذ في مرحلة غامضة من مراحل تناميها توصف بأنها مرحلة الانتقاء الإيجابي positive selection. وفي هذه المرحلة تضيف الخلايا التوتية غير الناضجة إلى سطوحها أعدادا متزايدة من المستقبلات ألفا-بيتا.
على أي حال، وكما اكتشفنا من قبل، فإن الخلية التوتية غير الناضجة تموت في التوتة إذا ما تعرفت المستضد الفائق الذي ينتجه الجين المتكامل MTV-7. ويوضح عدد كبير من التجارب التي أجريت مؤخرا على حيوانات مختلفة أن المستضدات الفائقة تسبب موت الخلايا التوتية غير الناضجة في مرحلة تقع تقريبًا في منتصف طريق تناميها.