- سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
سلطنة أوفات الإسلامية التي جابهت الحبشة الصليبية
حوالى 648 - 805هـ = 1250 - 1402م
(الحلقة الحادية عشر)
كانت الحركة الإسلامية قد ازدادت قوة في بلاد الزيلع منذ القرن العاشر الميلادى. وبلاد الزيلع هى البلاد التي تحيط بهضبة الحبشة من الشرق والجنوب الشرقى، وتتمثل الآن فيما يعرف بإريتريا وجيبوتى والصومال الكبير بأقسامه الثلاثة: الشمالى والجنوبى والغربى، المعروف باسم إقليم «أوجادين»، يضاف إلى ذلك كل المناطق الإسلامية التي ضمتها الحبشة بالغلبة والقوة قرب نهاية القرن التاسع عشر الميلادى.
في هذه البقعة الواسعة التي تنحصر بين ساحل البحر الأحمر وخليج عدن وبين هضبة الحبشة قامت مراكز تجارية عديدة على الساحل وانتشرت أيضًا في الداخل، وتحولت في النهاية إلى إمارات وممالك إسلامية نامية تحدث عنها المؤرخون القدامى، وقالوا إنها كانت سبع ممالك هى: «أوفات» و«هدية» و«فطجار» و«دارة» و«بالى» و«أرابينى» و«شرخا»، وامتدت هذه الممالك إلى «هرر» وبلاد «أروسى» جنوبًا حتى منطقة البحيرات، مطوقة الحبشة من الجنوب والشرق.
غير أن هذه الممالك والسلطنات التي قامت في شرق الحبشة وجنوبها تختلف عما رأيناه في أقطار إفريقية أخرى في هذه المرحلة من التطور؛ إذ لم تكن هذه السلطنات إفريقية خالصة، أسستها أسرات من أهل البلاد الأصليين الذين أسلموا، كما حدث في «مالى» و«صنغى» و«كانم وبرنو»، إنما أسستها أسرات عربية الأصل، فسلاطين «أوفات» وسلاطين «شوا» وغيرها يمثلون أرستقراطية عربية مهاجرة، استقرت في هذه الجهات ونمت ثروتها وازداد نفوذها واستولت على حكم البلاد وكانت الرعية مسلمة ومن أهل البلاد الأصليين.
وكانت العلاقات بين هذه الإمارات متوترة تسودها المنافسات القبلية، ولم يكن بينها من رابط سوى الصلة الروحية فقط، وكانت من الضعف بحيث إن أمراءها لايتولون العرش - في كثير من الأحيان – إلا بموافقة ملك الحبشة المسيحى، وليس معنى ذلك أن مسلمى تلك الإمارات قنعوا بالخنوع والخضوع للأحباش، بل إنهم كانوا في أحيان كثيرة مناوئين لملك الأحباش وغازين له في عقر داره كما سنرى.
و
كان من أسباب ضعف هذه الإمارات أو السلطنات الإسلامية أنها ما كاد يكتمل نموها وتزداد قوتها حتى واجهت حربًا صليبية ضروسًا استنزفت مواردها وشغلتها عن التفرغ للدعوة الإسلامية، ولذلك فإن الإنتاج الثقافي لتلك الإمارات كان محدودًا جدا، إذ إن الصراع مع الأحباش أخذ كل وقتها ولم يترك لها فرصة للإبداع والابتكار، ولم تنج سلطنة واحدة من الاشتباك مع هؤلاء الأحباش.
وقد قامت سلطنة «أوفات» حوالى (648 - 805 هـ = 1250 - 1402م) بعبء المقاومة والدفاع ضد هذا الخطر الصليبى الحبشى الذي كان يهدف إلى القضاء على الإسلام في منطقة القرن الإفريقى كلها، ولذلك كان من الواجب أن نخص هذه السلطنة بحديث.
كانت سلطنة «أوفات» أقوى سلطنة إسلامية قامت في بلاد «الزيلع»، أسسها قوم من قريش من «بنى عبدالدار» أو من «بنى هاشم» من ولد «عقيل بن أبى طالب».
ومدينة «أوفات» هى نفسها مدينة «جبرة» أو«جبرت» وكانت من أكبر مدن بلاد «الزيلع»، وكانت تتحكم في الطريق التجارى الذي يربط المناطق الداخلية بميناء «زيلع» على البحر الأحمر. ولم يتضح تاريخ «أوفات» إلا حوالى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى حينما ظهر أحد أمراء المسلمين وكان يسمى «عمر» ويعرف بلقب «ولشمع»، وأقام هذه السلطنة التي نمت وازدادت قوتها حتى استطاع صاحبها «عمر ولشمع» أن ينتهز فرصة ضعف سلطنة «شوا» المخزومية وأن يهاجمها عام (684هـ = 1285م) ويقضى عليها ويستولى على أملاكها كما رأينا عند الحديث عن هذه السلطنة.
وقد أدى هذا إلى اتساع سلطان «بنى ولشمع» السياسى، واستطاعت «أوفات» في عهدهم أن تبسط نفوذها على بقية هذه الإمارات الصغرى التي أشرنا إليها وأن يصل هذا النفوذ حتى ساحل البحر الأحمر وحتى منطقة «زيلع» وسهل «أوسا».
وكانت مساحة الأراضى التي سيطر عليها المسلمون بزعامة «أوفات» تفوق مساحة أرض مملكة الحبشة المسيحية نفسها، بل كانت تحيط بالحبشة من الجنوب والشرق، فضلا عن إحاطة الإسلام بها من ناحية السودان من الشمال والغرب، مما أدى إلى عزل مملكة الحبشة عزلا تاما عن العالم الخارجى، ولاسيما بعد استيلاء المسلمين على ميناء «عدل» قرب «مصوع»، ولذلك لاندهش من أنه عندما تولت الأسرة «السليمانية» عرش الحبشة عام (669هـ = 1270م)، رسمت لنفسها خطة لتوسيع سلطان «الحبشة» على حساب جيرانها من المسلمين الذين كانوا يسيطرون على الموانى ومن ثم على التجارة الخارجية.
وبذلك بدأت أولى مراحل الجهاد والصراع بين «أوفات» وتوابعها من الإمارات الإسلامية وبين ملوك الحبشة من ذلك الحين، وكانت البداية المبكرة على أيام الملك «ياجبياصيون» (684 - 693هـ = 1285 - 1294م) الذي شن حملة صليبية عنيفة ضد إمارة «عَدَل» التابعة لأوفات، وكان قد استشعر خطر الاتحاد الإسلامي الذي كانت تدعو إليه سلطنة «أوفات»، فضلا عن أن تلك السلطنة أعلنت زعامتها على الممالك الإسلامية المجاورة لها في بلاد «الزيلع»، وكان هذا أمرًا يتعارض مع مشاريع ملوك الحبشة الجدد، فقاموا بحملتهم تلك التى أشرنا إليها، وانتهت بانتصارهم.
وترجع هذه الهزيمة إلى أن حركة المقاومة التي تزعمتها «أوفات» لم تكن منبعثة عن وحدة وتعاون فعال بينها وبين الممالك الإسلامية، ولذلك هزمهم الأحباش من أول لقاء، بل يقال إن إمارتين إسلاميتين عاونتا ملك الحبشة في هجومه الذي انتهى بنهب «عَدَل» وعَقْد هدنة بين الطرفين، وكان من الممكن أن تكون هذه الحرب هى القاضية لولا تدخل سلطان «مصر» المملوكى الذي هدد بقطع العلاقات وعدم الموافقة على تعيين «المطران» الذي طلبه الأحباش، وكان يعين من قبل بطرك مصر، وأثمر هذا التدخل، فقَبِل الأحباش الهدنة مع «أوفات».
استطاع المسلمون تقوية مراكزهم ودعم سلطانهم على طول منطقة الساحل، وكانوا يرتقبون فرصة ضعف أو تخاذل في صفوف أعدائهم، وعندما علموا بوفاة ملك «الحبشة» عام (698هـ = 1299م)، قام شيخ مجاهد يدعى «محمد أبو عبدالله» بحشد طائفة كبرى من قبائل «الجَلا» و«الصومال» وأعدهم للجهاد، وقام بغزو الحبشة، ولم تعمد الحبشة إلى المقاومة بسبب بعض المتاعب الداخلية، واضطر ملكها إلى التنازل للمسلمين عن بضع ولايات على الحدود نظير الهدنة، ولم يكن سلاطين «أوفات» ليقنعوا بالهدنة، وخاصة أن قوتهم قد ازدادت، فلم يستطع الملك الحبشى «ودم أرعد» (698 - 714هـ = 1299 - 1314م) أن يرد هجماتهم.
ورأت «أوفات» أن تظهر قوتها للحبشة بل وتتوسع في أملاكها وتقضى على عدوانها، فتقدم السلطان «حق الدين» وتوغل في أملاك الحبشة وغزا بعض الولايات المسيحية؛ مما جعل ملك الحبشة يقوم بغزو«أوفات» في عام (728هـ = 1328م) وهاجمها من جميع الجهات وأسر «حق الدين» ووضع يده على مملكته وعلى «مملكة فطجار» الإسلامية وجعلهما ولاية واحدة وعين عليها «صبر الدين» وهو شقيق «حق الدين» بشرط الاعتراف بسيادة الحبشة.
غير أن «صبر الدين» لم يطق صبرًا على هذه التبعية وكوَّن حلفًا إسلاميا من إمارتى «هدية» و«دوارو»، ثم تقدم لغزو الحبشة واستولى على كثير من الغنائم، وهدد ملك الحبشة الذي خرج على رأس جيشه وهاجم الحلفاء منفردين بادئًا بإمارة «هدية»، فحطمها قتلا ونهبًا وأسرًا، وأرغمها على الخروج من الحلف، وحمل ملكها أسيرًا إلى عاصمته، ثم تقدم إلى «أوفات» ودخلها ودمرها ونهب معسكر المسلمين فيها، ثم تقدم إلى «فطجار» واستولى عليها وعلى مملكة «دوارو».
وعلى ذلك يمكن القول بأنه في هذه الفترة انتهى استقلال الممالك الإسلامية في «أوفات» و«هدية» و«فطجار» و«دوارو».
وعين عليها ملك الحبشة «جلال الدين» أخا «صبر الدين» حاكمًا، فقبل على أن يكون تابعًا للحبشة، وهكذا اتسعت مملكة الحبشة وضعف أمر المسلمين.
وفي غمرة هذا الصراع الدموى اتفقت كلمة المسلمين بين عامي (1332 و1338م) على الاستنجاد بدولة المماليك في «مصر»، وذلك بإرسال سفارة إلى سلطان «مصر» «الناصر محمد بن قلاوون» برئاسة «عبدالله الزيلعى» ليتدخل السلطان في الأمر لحماية المسلمين في بلاد «الزيلع». فطلب «الناصر محمد» من بطرك الإسكندرية أن يكتب رسالة إلى ملك الحبشة في هذا الصدد. غير أن ملك الحبشة لم يكفَّ عن مهاجمة المسلمين الذين لم يتوانوا في انتهاز الفرص للثأر منه.
وتحالفت إمارتا «مورا» و«عدل» مع بعض القبائل البدوية وأخذوا يشنون حربًا أشبه بحرب العصابات، وأخذ ملك الحبشة في مطاردتهم وتقدم في أراضى «مورا» الإسلامية، حتى وصل إلى مدينة «عَدَل» وقبض على سلطانها وذبحه، فتقدم أولاد السلطان الثلاثة إلى ملك الحبشة مظهرين الخضوع.
وفي تلك الأثناء انتاب إمارة «أوفات» بعض الفتن الداخلية بسبب النزاع على العرش بين أفراد الأسرة الحاكمة، وانتهى النزاع بانفراد «حق الدين الثانى» وإعلان استقلاله عن الحبشة، واستطاع أن يهزمها ويردها عن إمارته فترة طويلة حتى هُزم ومات عام (788هـ = 1386م)، والتف المسلمون للمرة الأخيرة حول خليفته وأخيه «سعد الدين»، واستأنفوا حركة الجهاد ودحروا الأحباش، وتوغلوا في أرض «أمهرة» (مملكة النجاشى) لكن «سعد الدين» هُزم في معارك تالية، واضطر إلى الفرار إلى جزيرة «زيلع» حيث حوصر وقتل عام (805هـ = 1402م) نتيجة لخيانة رجل دلَّهم على مكمنه.
ويعتبر احتلال الأحباش لزيلع بمثابة إسدال الستار على سلطنة أوفات التى احتلها الأحباش نهائيا، ولم يعد يسمع بها أحد، وانتهى دورها في الجهاد، وتفرق أولاد «سعد الدين» العشرة مع أكبرهم «صبر الدين الثانى»، وهاجروا إلى شبه الجزيرة العربية حيث نزلوا في جوار ملك اليمن «الناصر أحمد بن الأشرف» الذي أجارهم وجهزهم لاستئناف الجهاد ضد الحبشة، فعادوا إلى إفريقيا حيث انضم إليهم من بقى من جنود والدهم، فقوى أمرهم واستأنفوا النضال واتخذوا لقبًا جديدًا هو لقب «سلاطين عَدَل».المصدر
الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي
نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي - [23 شعبان, 1434هـ/01-07-2013], 06:01 PM#13
- تاريخ التسجيل
- Aug 2010
- المشاركات
- 4,566
رد: سلسلة ممالك إسلامية في القارة الأفريقية
سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
سلطنة عَدَل الإسلامية ووقوفها بوجه الاحباش والبرتغاليين
817 - 985هـ = 1414 - 1577م
(الحلقة الثانية عشر)
كانت «عَدَل» إقليمًا من الأقاليم التى خضعت لسلاطين «أوفات».
وليس ببعيد أن تكون قد تأسست فيها إمارة محلية تدين بالولاء لبنى ولشمع، ويبدو أن موقعها المتطرف قد ساعد على نجاتها من التوسع الحبشى الذى أطاح بالإمارات السابقة. وكان طبيعيا أن يأوى «بنو سعد الدين» إلى إقليم قريب من البحر يتيح لهم الاتصال ببلاد اليمن بعيدًا عن مناطق النفوذ الحبشى. وكانت تلك السلطنة تضم البلاد الواقعة بين ميناء «زيلع» و «هرر» وتشمل ما يعرف بالصومال الشمالى والغربى وإقليم «أوجادين»، وسميت هذه البلاد «بر سعد الدين» تخليدًا لسعد الدين الذى مات بزيلع ودفن بها.
استأنف سلاطين «عَدَل» الجهاد مرة أخرى فى عهد «صبر الدين الثانى» الذى اتخذ مدينة «دَكَّر» عاصمة له، واستطاع الاستيلاء على عدة بلاد حبشية فيما يعرف بحرب العصابات، وبعد وفاته عام (825هـ = 1422م) خلفه أخوه «منصور» المتوفى سنة (828هـ = 1425م) الذي بدأ عهده بحشد عدد كبير من مسلمى «الزيلع» وهاجم بهم ملك الحبشة وقتل صهره وكثيرًا من جنده، وحاصر منهم نحوًا من ثلاثين ألفًا مدة تزيد على شهرين، ولما طلبوا الأمان خيَّرهم بين الدخول في الإسلام أو العودة إلى قومهم سالمين، فأسلم منهم نحو عشرة آلاف وعاد الباقون إلى بلادهم، ولم يقتلهم «منصور» ولم يستعبدهم كما كان يفعل ملوك الحبشة بجنود المسلمين الذين كانوا يقعون في أسرهم.
لكن ملك «الحبشة» «إسحاق بن داود» أعد جيشًا كبيرًا وهجم به على «منصور» وقواته وهزمها هزيمة شنيعة لدرجة أن السلطان «منصور» وقع هو وأخوه الأمير «محمد» فى أسر «إسحاق» عام (828هـ = 1425م).
ولكن راية الجهاد ضد عدوان الأحباش لم تسقط بهذه الهزيمة، فقد قام أخ للسلطان الأسير وهو السلطان «جمال الدين» برفع راية الجهاد من جديد.
وانتصر على ملك الحبشة فى مواقع كثيرة، ولكن أبناء عمه حقدوا عليه ربما رغبة فى النفوذ والسلطان الذى حرموا منه فاغتالوه في عام (836هـ = 1432م)، فتولى الحكم بعده أخوه السلطان «شهاب الدين أحمد بدلاى» الذى عاقب القتلة وحارب الأحباش واسترد إمارة «بالى» الإسلامية من أيديهم، ولكنه وقع صريعًا أمام الأحباش في (848هـ = 1444م) نتيجة لخيانة أحد الأمراء الذين أظهروا التحالف معه. ومن ثم تمكن الأحباش من اجتياح سلطنة «عَدَل» وبقية الممالك الزيلعية الأخرى، وأصبحت الحبشة إمبراطورية كبيرة امتدت شمالا حتى مصوع وسهول السودان وضمت «أوفات» و«فطجار» و«دوارو» و«بالى» و«هدية»، ومنحت هذه الإمارات استقلالها الذاتى، وولت عليها عاملاًيسمى «الجراد» ينحدر من البيت المالك القديم.
ويبدو أن الرغبة الصادقة فى الجهاد التى عرف بها الجيل الأول من سلاطين «أوفات» قد فترت عند أحفادهم سلاطين «عدل»، فقد سئموا القتال وجنحوا إلى المسالمة ولكن الشعب المسلم لم يتخل عن سياسته التقليدية فى جهاد الأحباش ومقاومتهم. وكان تخاذل سلاطين «عدل»، وتحمس الشعب للجهاد مؤذنًا ببداية الدور الأخير من أدوار الجهاد وهو دور «هرر».
وتميز هذا الدور بظهور طائفة من الأمراء الأئمة أشربت قلوبهم حب الجهاد وصارت لهم السلطة الفعلية فى البلاد، وبذلك أصبح في المجتمع العَدَلى حزبان: هذا الحزب الشعبى الذى يتزعمه الأمراء الأئمة، وذلك الحزب الذى يريد أن يسالم الأحباش ويتكون من الطبقة الأرستقراطية والتجار، وعلى رأسه سلاطين عدل التقليديون.
وكان أول هؤلاء الأئمة ظهورًا هو الداعى «عثمان» حاكم زيلع الذي أعلن الجهاد بعد وفاة السلطان «محمد بن بدلاى» مباشرة عام (876هـ = 1471م)، ثم ظهر فى «هرر» الإمام «محفوظ» الذي تحدي السلطان «محمد بن أزهر الدين»، واشتبك مع الأحباش، غير أن البرتغاليين ظهروا على مسرح الأحداث وفاجئوا «زيلع» وأغاروا عليها وانتهى الأمر بفشل حركة «محفوظ»، وباغتيال السلطان «محمد» سنة (924هـ = 1518م).
وفى بداية القرن (16م) ظهرت تطورات كان لها تأثيرها فى مسرح الأحداث بين المسلمين والأحباش، تمثلت فى ظهور الأتراك العثمانيين وقيام حركة الكشوف الجغرافية بزعامة الملاحين البرتغاليين، كذلك أدخلت الأسلحة النارية إلى منطقة الأحداث فى بلاد «الزيلع» و«الحبشة»، وأهم من هذا كله إسلام قبائل البدو من الأعفار والصومالى، ودخولها ميدان الجهاد، ووقوفها وراء الإمام الذي رشحته الأحداث لتزعم حركة الجهاد الإسلامى فى ذلك الدور، وهو الإمام «أحمد بن إبراهيم الغازى» الملقب بالقرين أى الأشول.
اتبع الإمام «أحمد القرين» بعد أن سيطر على مقاليد الأمور في سلطنة «عَدَل» وبعد أن اتخذ «هرر» مقرا له سياسة موفقة جمعت الناس حوله، فقد طبق الشريعة الإسلامية فى حكمه وخاصة في توزيع أموال الزكاة والغنائم على مستحقيها وفى مصارفها الشرعية، وبذلك كسب حب الجند وحب الفقهاء والعلماء، كما كسب أيضًا محبة الشعب، فقد كان يلطف بالمساكين ويرحم الصغير، ويوقر الكبير، ويعطف على الأرملة واليتيم، وينصف المظلوم من الظالم، ولا تأخذه فى الله لومة لائم، كما قضى على قُطَّاع الطرق فأمنت البلاد وانصلح حال الناس وانقادوا له وأحبوه.
بهذه السياسة الداخلية السليمة استطاع الإمام «أحمد القرين» أن يوحد كلمة المسلمين ويتولى زعامتهم وعزم على رد عادية الأحباش، وذلك بفتح بلاد الحبشة ذاتها، وتمكن من التوغل فيها حتى وصل إلى أقاليمها الشمالية، ودارت بينه وبين الأحباش عدة معارك، كان أولها فى عام (933هـ = 1527م) حيث هزم الأحباش لأول مرة منذ بداية الجهاد. وفى عام (934هـ = 1528م) أحرز الإمام «أحمد» نصرًا حاسمًا على الأحباش فى موقعة «شنبر كورى»، ثم بدأ فى غزو بلاد الحبشة نهائيا.
ففى سنة (938هـ = 1531م) دخل «دوارو» و«شوا» و«أمهرة» و«لاستا». وفى سنة (940هـ = 1535م) سيطر المسلمون على جنوب الحبشة ووسطها، وغزوا «تجراى» للمرة الأولى وأصبح مصير الأحباش فى كفة الميزان.
وفى هذا الوقت كان الزحف البرتغالى قد وصل إلى البحر الأحمر فاستنجد بهم الأحباش عام (942هـ = 1535م) فأرسل إليهم ملك البرتغال نجدة عسكرية وصلت البلاد عام (948هـ = 1541م)، وتقابل المجاهدون بقيادة «أحمد القرين» مع الأحباش والبرتغاليين في عدة مواقع عام (949هـ = 1542م)، لكنه هُزم وتكررت هزيمته فى العام التالي حيث استشهد وتفرقت جموعه، ونجت الحبشة من السقوط، ولم يعد المسلمون مصدر خطر جدى يهدد الأحباش، ومع ذلك فإن حركة الجهاد لم تمت بموت «أحمد القرين»، بل استأنفها خلفاؤه من بعده وخاصة فى عام (966هـ = 1559م) بقيادة الأمير «نور» الذى اتخذ لقب أمير المؤمنين، والسلطان الأسمى المسمى «عليَّا» سليل أمراء «عَدَل» السابقين، لكن هذه الجهود باءت بالفشل.
وكانت انتفاضة «هرر» الأخيرة عام (985هـ = 1577م) حينما تحالفت مع أحد ثوار الأحباش للنيل من ملك الحبشة، وحدثت موقعة انتهت بمقتل «محمد الرابع» آخر أمراء «هرر» عند نهر «ويبى»، وانتهت هرر كقوة سياسية ذات شأن، فى الوقت الذى استطاع فيه الأحباش أن يقضوا على خطر الأتراك العثمانيين أيضًا بهزيمتهم وعقد هدنةمعهم عام (997هـ - 1589م) واكتفى العثمانيون بالسيطرة على «مصوع» و«سواكن»، وبذلك انتهى الصراع فى الحبشة لصالح الأحباش.
وإذا كانت هذه الحركة لم تحقق أهدافها بالقضاء على مملكة الحبشة نهائيا، إلا أنها أثبتت عمق الشعور الإسلامى فى نفوس أهل شرق إفريقيا وعمق تمسكهم بالإسلام، فقد دأبوا على الجهاد وأصروا عليه طيلة أربعة قرون، وظهر أثر العلماء والفقهاء وأصبحت لهم الزعامة فى المجتمع فى ذلك الوقت.
وعلى الرغم من هذه الهزيمة التى منى بها المسلمون في منطقة القرن الإفريقى وانصراف اهتمام العثمانيين إلى أوربا والعالم العربى، فإن المسلمين الزيالعة بقيت لهم بعض سلطناتهم وبلادهم.
ذلك أن الصراع الذى اندلع بينهم وبين الأحباش أنهك الطرفين معًا؛ مما هيأ الفرصة لدخول قبائل الجلا الوثنية القادمة من الجنوب، فاحتلت «هرر» واستقرت فى النصف الجنوبى من دولة الحبشة، ثم أسلمت هذه القبائل أخيرًا، ولكن أوربا الغربية أعانت الأحباش على المسلمين فى القرن التاسع عشر الميلادى، وخاصة فى عهد «منليك الثانى» الذى استولى على سلطنة «هرر» فى عام (1302هـ = 1885م) وعلى غيرها من البلدان الإسلامية، ثم استولى الأحباش على سلطنة «أوسا»، ثم على «إريتريا» و «إقليم الأوجادين الصومالى» فى القرن العشرين. وظل الأمرعلى هذا النحو حتى نالت هذه البلاد استقلالها وتحررت من نير الأحباش، وإن كان بعضها لايزال تحت سيطرتهم حتى الآن.
المصدر
الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي
نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي - [23 شعبان, 1434هـ/01-07-2013], 06:03 PM#14
- تاريخ التسجيل
- Aug 2010
- المشاركات
- 4,566
رد: سلسلة ممالك إسلامية في القارة الأفريقية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق