سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
سلطنة بات النبهانية فى شرق إفريقيا عصر من الحضارة الاسلامية
600 - 1278هـ = 1203 - 1861م
(الحلقة الرابعة عشر والأخيرة)
ظهرت هذه السلطنة على مسرح التاريخ نتيجة لهجرة عربية وفدت من «عُمان» إلى ساحل شرقى إفريقيا فى أوائل القرن السابع للهجرة الثالث عشر الميلادى؛ حيث كونت سلطنة إسلامية نبهانية فى «بات» تولت حكم شطر كبير من هذا الساحل، وظلت موجودة حتى عام (1278هـ = 1861م).
والنباهنة قوم من العتيك من الأزد فى «عُمان» كانوا قد استولوا على مقاليد السلطة هناك بعد أن دبت الفوضى فى البلاد وانقسم العمانيون إلى طائفتين متخاصمتين، وحكم النباهنة عمان نحوًا من خمسمائة عام، حيث قامت دولتهم هناك عام (500هـ = 1106م) أو عام (506هـ = 1112م) واستمرت حتى نهاية القرن العاشر الهجرى عندما قامت دولة اليعاربة فى عُمان عام (1024هـ = 1615م).
ويبدو أن الدولة النبهانية فى عمان قد مرت بأطوار من القوة والضعف بسبب الصراع الداخلى على الحكم، وكان الطور الأول يشمل مدة قرن من الزمان والذى انتهى بهجرة أحد ملوك النباهنة، وهو على أرجح الأقوال «سليمان ابن سليمان بن مظفر النبهانى» إلى ساحل شرقى إفريقيا فى عام (600 - 611هـ) واستقر هو وأتباعه فى مدينة «بات» التى تقع فى «أرخبيل» لامو (فى كينيا الآن).
وأقاموا سلطنة هناك وحكموا جزءًا كبيرًا من الساحل متخذين من «بات» مقرا لسلطنتهم، وذلك بعد أن استطاع أول سلطان لهم هناك، وهو «سليمان بن سليمان بن مظفر النبهانى»، أن يتزوج أميرة سواحيلية، ليست فارسية، هى ابنة «إسحاق» حاكم «بات» في ذلك الحين، وعن طريق زوجته ورث الملك، كما يقال: إن والدها تنازل له
عن الحكم فأصبح الحاكم الشرعى لبات، ومن ثم نقل بلاطه من عُمان إلى شرق إفريقيا.
وقد نمت هذه السلطنة واتسعت فى عهد أبنائه وأحفاده، ففي عهد السلطان «محمد الثانى بن أحمد» (690 - 732هـ = 1291 - 1331م) توسعت السلطنة شمالا بعد حملات ناجحة قام بها هذا السلطان أخضع فيها كل المدن الساحلية التى تقع شمالى «بات» حتى «مقديشيو» وعين حاكمًا لكل منها.
وفى عهد ابنه السلطان «عمر الأول» (732 - 760هـ = 1331 - 1358م)،توسعت السلطنة جنوبًا؛ حيث أخضع المدن الساحلية بما فيها «كلوة»، ووصل إلى جزر «كيرمبا» جنوب رأس «دلجادو»، وخضعت له كل هذه المنطقة ماعدا جزيرة «زنجبار» التى لم تكن في ذلك الوقت قطرًا مهما بدرجة تجذب انتباهه إليها. كذلك فإن حكام «مالندى» أتوا إلى «بات» ليعطوا ولاءهم لسلطانها، ودخلت أيضًا مدينة «ممبسة» والمستوطنات القريبة منها ضمن منطقة نفوذه، وهكذا أصبح السلطان «عمر بن أحمد» فى غاية القوة والنفوذ بعد أن أصبحت جميع المدن الساحلية تحت سيطرته.
وقد استمرت سيطرة النباهنة على هذه المناطق وكان لهم في كل مدينة خضعت لهم عامل أو قاضٍ يعرف باسم «ماجومب» بمعنى الخاضع لليمب أى للقصر الملكى فى «بات»، وكانت دار الشورى فى «بات» مقرا للحكومة المركزية التي كانت تحكم كل البلاد التي خضعت لهؤلاء السلاطين الذين اتخذوا اللقب السواحيلى «بوانا فومادى»، أو «فومولوتى» ويعنى الملك أو السلطان.
وقد تميزت سلطنة «بات» بنظم إدارية وتقاليد سياسية واضحة، وانفردت بتقاليد جديدة فى الملاءمة بين الضرائب وبين النشاط الاقتصادي للأهالي، إذ فرضت ضريبة إنتاج لا يتعدى مقدارها 10%، ذلك أن الدولة كانت تتقاضى وسقين أو حملين من كل عشرين وسقًا تنتجها كل جماعة مشتغلة بالزراعة، وهي الضريبة المعروفة بالعشور فى الفقه الإسلامى، كما دخلت الزراعة فى بقاع كثيرة من الساحل الإفريقى فى فترة الحكم النبهاني، وظهر كثير من النباتات التي زرعها العرب هناك مثل القرنفل وقصب السكر، كما اهتموا بالرعي وتربية الماشية والأغنام وأدخلوا تربية الإبل إلى هذه المناطق.
وقد نشطت الحركة التجارية في عهد ازدهار هذه السلطنة إلى حد كبير، وتوافد على الساحل التجار العرب من عُمان وغيرها، وكذلك تجار الهند المسلمون، وقد عمل هؤلاء التجار بنقل الحاصلات المتوافرة فى شرق إفريقيا إلى البلدان المطلة على المحيط الهندى، وإلى الأسواق العربية فى مصر والشام والعراق، فأصبحت الدولة على جانب كبير من الثراء.
وقد نتج عن هذا الثراء تطور حضارى كبير، فقد أنشأ أهل «بات» منازل كبيرة واسعة، وضعوا فيها لمبات نحاسية جميلة، كما صنعوا سلالم أو درجات مزينة بالفضة يتسلقونها أو يصعدون عليها إلى فرشهم أو سُررهم، كما صنعوا سلاسل فضية تزين بها الرقاب، وزينوا أعمدة المنازل بمسامير كبيرة من الفضة الخالصة، وبمسامير من الذهب على قمتها. وقد تجلت مظاهر هذه الحضارة العربية أيضًا في المباني المعمارية وتخطيط المدن وزخارف الأبواب والنوافذ، كما أدخل العرب فن النقش والحفر والنحت وعقود البناء العالية والفسيفساء المتناسقة مع الرخام الملون.
وفي مجال الثقافة واللغة والعلوم والفنون ظهر فى تلك الفترة ما يعرف باللغة السواحيلية، وهى الفترة التى كانت فيها سلطنة «بات» النبهانية صاحبة السيطرة والنفوذ على معظم أجزاء الساحل الشرقي لإفريقيا كما سبق القول، مما أدى إلى وجود تأثير عربي قوي في اللغة السواحيلية حتى فى المناطق الجنوبية التى تقع في «تنجانيقا» و «زنجبار»، حيث ظهرت أفصح أنواع اللغة السواحيلية.
ونتيجة لذلك ظهرت نظرية تقول بأن الشعب السواحيلى ولغته نشأ كل منهما حول «لامو» حيث توجد «بات»، وأن المهاجرين العرب الذين أقاموا فى «لامو» وأنشئوا هذه الإمارة تزوجوا من نساء «البانتو» واضطروا إلى استخدام عدد من الكلمات البانتوية بحكم معيشتهم اليومية مع زوجاتهم، ونشأ أولاد «مولَّدون» أى نصف عرب ونصف بانتو، مزجوا بين اللغة العربية لغة آبائهم، وبين لغة البانتو لغة أمهاتهم، ومع استمرار التزاوج والاختلاط والمصاهرة تكوَّن الشعب السواحيلى وظهرت اللغة السواحيلية التى أصبحت لغة التجارة ولغة الحياة اليومية، وسرعان ما انتشرت هذه اللغة فى شرق ووسط إفريقيا نظرًا لغناها ومرونتها.
ولاشك أن انتشار اللغة السواحيلية بين السكان الأصليين، بجانب اللغة العربية التى كانت لغة الطبقة العربية الحاكمة، كان له أثره الكبير فى نشر الإسلام وثقافته بين القبائل الإفريقية التى تقيم على الساحل، وتلك التى تقيم حول طرق القوافل الرئيسية مما جعل اللغة السواحيلية عاملا قويا فى توحيد السكان فى هذه المنطقة من القارة على اختلاف ألوانهم وتباين لغاتهم وتعدد قبائلهم وشعوبهم وأجناسهم، مما أدى إلى ظهور ثقافة مشتركة هى الثقافة السواحيلية التى غلبت عليها السمة العربية.
ومن ثم فقد ساعد ذلك كثيرًا على انتشار الإسلام بين السكان المحليين وتطعيم ثقافتهم بعناصر عربية كثيرة، خاصة أن هذه اللغة كتبت بحروف عربية، واستمرت كذلك حتى جاء الاستعمار الأوربي الحديث وحوَّلها إلى الكتابة بالحروف اللاتينية بهدف إيجاد فاصل بين الثقافة الإسلامية والثقافة السواحيلية الحديثة. وعندما كانت السواحيلية تكتب بحروف عربية دخلها كثير من الألفاظ العربية، وقد قدر عدد هذه الألفاظ بحوالى عشرين بالمائة من لغة التخاطب، وثلاثين بالمائة من السواحيلية المكتوبة، وخمسين بالمائة من لغة الشعر السواحيلى القديم، كما أن العرب غرسوا فى السواحيليين حب الأدب وفنون الشعر وخرج منهم شعراء وخطباء مطبوعون، وأصبح لهم أدب يعتزون به، وتكوَّن تراث كبير من الشعر والنثر السواحيلى مكتوب بالحروف العربية يشتمل على أعمال دينية ودنيوية، حتى إنهم عرفوا الشعر الغنائى (المشارى) منذ زمن بعيد يعود إلى ما قب لعام (545هـ = 1150م) ومازالوا ينظمونه، كما كتبوا شعر الملاحم المعروف باسم «التندى».
كذلك مهدت اللغة السواحيلية السبيل أمام ظهور شعب جديد هو الشعب السواحيلى، وقد ساعد فى تكوين هذا الشعب ميل المستوطنين العرب إلى السلم وحبهم للسكون والاستقرار، فإن مستوطناتهم وإماراتهم وسلطناتهم لم تقم على الفتح بل على التجارة، والتجارة كما هو معروف لا تنشط إلا فى جو من السلام والأمن والعلاقات الطيبة، كما أن أخلاق الإفريقيين، وطباعهم كانت قريبة من طباع العرب الذين اعتاد الأفارقة رؤيتهم ورؤية أحفادهم يوغلون فى البلاد ويعملون بالتجارة وينشرون الإسلام والوئام بين الناس، فظهر التآلف واتحدت الأهواء والميول، وظهر ما يعرف بالشعب السواحيلى.
وقد دعم «النباهنة» هذه الثقافة السواحيلية ذات الطابع الإسلامي وذلك بالعمل على نشر التعليم الدينى في المساجد والمدارس والكتاتيب التى وفد إليها كثير من الوطنيين الأفارقة ليحفظوا القرآن الكريم ويتعلموا الكتابة بالحروف العربية، بل ويتعلموا اللغة العربية ذاتها، حتى يتمكنوا من التعمق فى فهم عقيدة الإسلام وتراثه الديني واللغوى، وهكذا نرى أن سلطنة «بات» النبهانية قد فرضت نفوذها على معظم أنحاء الساحل الشرقى لإفريقيا، وأنشأت حضارة إسلامية تغلغلت جنوبًا وحملها المهاجرون والتجار العرب معهم لا إلى الساحل فقط، بل إلى الجزر المواجهة له مثل جزر «كلوة» و«زنجبار» و«بمبا» و«مافيا»، مكونة بذلك دولة كبيرة تعدد سلاطينها حتى بلغ عددهم اثنين وثلاثين سلطانًا، وقد ظلت هذه السلطنة قائمة رغم مهاجمة البرتغاليين لها، وبعد طردهم برز العُمانيون فى الميدان ووضعوا أيديهم على هذا الساحل بما فيه سلطنة «بات»، وظل الأمر على هذا النحو حتى جاء الإنجليز واحتلوا هذه البلاد قرب نهاية القرن التاسع عشر للميلاد، حتى تحررت وصارت تعرف اليوم باسم «جمهورية كينيا».
المصدر
الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي
نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلاميأعده وكتبه / هاني الهواري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق