الاثنين، 21 ديسمبر 2015

سلطنة البلالة الإسلامية


سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
سلطنة البلالة الإسلامية في حوض بحيرة تشاد التي واجهت 
الاحتلال الصليبي الفرنسي
766 - 1318 هـ =1365 - 1900م
(الحلقة السابعة)

قامت هذه السلطنة في حوض بحيرة «تشاد» (أى: في بلاد السودان الأوسط)، وبالتحديد في حوض بحيرة «فترى»، وإلى الشمال منها حتى بحيرة «تشاد»، وظهرت كدولة يمكن التحقق من تاريخها منذ عام (766هـ = 1365م)، واستمرت حتى بداية القرن العشرين، عندما سقطت المنطقة كلها في يد الاستعمار الفرنسى.
وعلى الرغم من طول مدة بقاء هذه السلطنة، فإن المؤرخين لم يذكروها كثيرًا ولم يهتموا بها؛ لأنها كانت تابعة لسلطنة «الكانم والبرنو» في كثير من فترات حياتها.

ويعود اسم «البلالة» إلى أول زعيم لهم ويدعى «بولال» أو«بلال» أو«جيل» أو«جليل»، ومنه جاء اسم أول زعمائهم وهو«عبدالجليل»، وربما جاء اسم «بلالة» أو«بولالة» من «بولو» الذى كان ابنًا لقبائل «البيوما» التي كانت تسكن منطقة «بيو» (
Biyo)، ثم أُضيف إليه المقطع التماشكى (ilalla) فجاء اسم «بولالا» أو«بلالة»، وهى كلمة تعنى الأحرار النبلاء، وربما جاء الاسم أيضًا من اسم ميناء كان ولايزال يقع على الساحل الشرقى لبحيرة «تشاد»، ويسمى «بول» (Bol)، ثم أُضيف إليه المقطع التماشكى، فصار «بولالا» أو«بلالة» كما ينطقه البلاليون أنفسهم في هذه الأيام. 

أما أصل قبائل «البلالة» فقد جاء نتيجة اختلاط عناصر متعددة سكنت هذه المنطقة، وهى: البربر والعرب والسودان والزنج، وقد تصاهرت هذه العناصر فيما بينها، فأدَّى ذلك إلى امتزاجهم وتغير في صفاتهم.


وقد كان «البلالة» وثنيين حتى القرن الثانى عشر الميلادى؛ حيث أسلموا عقب إسلام بنى عمومتهم الذين يتمثلون في «الأسرة السيفية الماغومية» الحاكمة في سلطنة «كانم» في القرن الحادى عشر الميلادى.


أما من الناحية السياسية فقد ظهر خطر «البلالة» على سلاطين دولة «كانم» منذ وقت مبكر، رغم صلة القرابة التي تربط بينهما، ويعود ذلك إلى أن «البلالة» كانوا يحاولون التخلُّص من تبعيتهم لأقربائهم من حكام «كانم»، وقد ظهر هذا الخطر منذ عهد أول سلاطين «كانم» الإسلامية وهو الماى (السلطان) «أوم بن عبدالجليل» (1086 - 1097م) الذى حاربهم وانتصر عليهم، فأعلنوا الطاعة والخضوع، وظلوا 
يتقلبون بين التبعية والتحرر من سلطان «كانم» حتى ظهر زعيمهم الموصوف بالقوة والشجاعة والدهاء وهو«عبدالجليل سيكومامى» الذى حقق لهم الاستقلال التام والتوسع في حدود سلطنته في عام (1365م)، بفضل معاونة العرب الموجودين في هذه المنطقة، واتخذ من مدينة «ماسيو» التي تقع بين «بحيرة فترى» و«كانم» عاصمة له.

ثم حارب مايات كانم وانتصر عليهم، وبذلك وقع إقليم «كانم» بأسره في قبضة «البلالة»، مما جعلهم يحكمون دولة واسعة تمتد من حدود «دارفور» الغربية وبلاد «النوبة» حتى شواطئ «بحيرة تشاد» الشرقية، واضطرت «الأسرة السيفية الماغومية» الحاكمة في «كانم» إلى الهرب إلى إقليم «برنو» الذى يقع في غرب «بحيرة تشاد».


ولكن لم يلبث حكام «برنو» أن استعادوا قوتهم على يد الماى «على جاجى بن دونمه» الملقب بالغازى؛ نظرًا لغزوه إقليم «كانم»، ونشب بينه وبين «البلالة» صراع منذ عام (1472م) في محاولة لاسترداد «كانم» مرة أخرى، واستمر الصراع فترة طويلة انتهى بعقد اتفاقية سلام، اتفقا فيها على رسم الحدود بين «كانم» و«برنو».


وعلى الرغم من ذلك وبمرور الوقت بدأ الضعف يدب في جسد سلطنة«البلالة»؛ بسبب الفتن والاضطرابات والحروب الأهلية، وظهور إمارات جديدة بدأت تُغِير على سلطنة «البلالة»، مثل سلطنة «واداي» التي تقع في الشمال الشرقى لدولة «البلالة»، وسلطنة «باجرمى» التي تقع في جنوبيِّها الغربى.


وعلى الرغم من هذا الضعف فقد ظلت هذه السلطنة قائمة حتى بداية القرن العشرين؛ حيث سقطت في قبضة الاستعمار الفرنسى في عام (1900م)، ومع ذلك حكم بعض سلاطين «البلالة» تحت راية هذا الاستعمار، وظلوا كذلك حتى نالت البلاد استقلالها في عام (1960م) ودخلت بلاد «البلالة» ضمن حدود جمهورية «تشاد» الحديثة منذ ذلك التاريخ.


وقد أدَّت «سلطنة البلالة» دورًا اقتصاديا وعلميا ودينيا مهما في تاريخ المنطقة؛ إذ كانت نظرًا لموقعها بين «دارفور» و«النوبة» في الشرق، و«كانم» و«بحيرة تشاد» وماوراءها من بلاد «الهوسا» و«مالى» في الغرب، و«ليبيا» في الشمال - مركزًا مهما من مراكز التجارة التي تأتى من هذه البلدان مما انعكس أثره على مسيرتها التاريخية، ودَعْم اقتصادها، ورَبَط بينها وبين دول تقع خارج منطقة «بحيرة تشاد»، واتسعت تجارتها حتى وصلت إلى «مصر» وغيرها من البلدان، كما زادت محصولاتها الزراعية.


أما الحياة العلمية: فقد تجلت في المدارس والعلماء والفقهاء والأشراف الذين كانوا يُعامَلُون بكلِّ تبجيلٍ واحترامٍ، كما ظهرت الطرق الصوفية وبخاصة «التيجانية» و«القادرية»، وكان لهذه الطرق أثر كبير في نشر الإسلام في هذه البلدان.

أما اللغات التي كانت منتشرة بين «البلالة»، فهى عديدة، فقد كانوا يتكلمون لغة «كوكا» وهى قبيلة كانت تسكن مملكة «جاوجا» - أحد أقاليم سلطنة البلالة - وكانوا يتكلمون أيضًا اللغة العربية التي كانت لغة العلم والتعليم ولغة الحكومة الرسمية والتجارة والمرإسلات، حتى قضى الاستعمار الفرنسى عليها وعلى استخدام الحروف العربية في الكتابة وحَوَّلَها إلى الكتابة بالحروف اللاتينية، وإن كان كثير من الأهالى - حتى الآن - يحافظون على التحدث والكتابة باللغة العربية، ومعظمهم - أى نحو (85%) - يدينون بالإسلام.
المصدر
الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي

نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي

إمارات الهوسا الإسلامية فى شمالى نيجيريا

سلسلة ممالك اسلامية في القارة الافريقية
إمارات الهوسا الإسلامية فى شمالى نيجيريا
(الحلقة السادسة)

ناسف لكلمة رقيق التي وردت فهذه تتدل على ان معظم الممالك التي نشاءة في افريقيا انشاء وسطاء تجار الرقيق؟؟؟؟ المدونة..... ولذلك على الرغم من سماحة الدين الاسلامي نجدهم يتجاوزون ذلك ويقمون بعملية تجارة الرقيق اي ان الاهداف التجارية كانت هي الاهم اي ان الاستعمار الاوربي قاد الشعوب الافريقية من الانفكاك من هولاء الوسطاء؟؟؟؟ حبيب الله ابكر 
يجب ان نعيد دراسة التاريخ  لماذا يكرهنا الاخرون؟؟؟؟
تشمل بلاد «الهوسا» ما يعرف الآن بنيجيريا الشمالية، وجزءًا من جمهورية «النيجر»، وكانت تقع فى العصور الوسطى فى المنطقة المحصورة بين سلطنتى «مالى» و«صنغى» غربًا، وسلطنة «البرنو» شرقًا، تحدُّها من الشمال بلاد «أهير» والصحراء الكبرى، ومن الجنوب ما يعرف الآن بنيجيريا الجنوبية.

و«الهوسا» (أو الحوصا) مصطلح يطلق على الذين يتكلمون بلغة «الهوسا»، ولذلك فليس هناك جنس يمكن أن يتسمى بهذا الاسم؛ إذ إن الهوسويين لاينحدرون من دم واحد، بل جاء أغلبهم نتيجة امتزاج حدث بين جماعات قَبَلِيَّة وعِرْقِية كثيرة، أهمها: السودانيون. أهل البلاد الأصليون، والطوارق من البربر، والفولانيون وغيرهم.


ونتج عن هذا الامتزاج هذا الشعب الذى أصبح يتكلم لغة واحدة، هى لغة «الهوسا» التى انتشرت انتشارًا كبيرًا فى إفريقيا الغربية، حتى أصبحت لغة الناس والمعاملات المالية والتجارية. 


وعلى الرغم من أن المتكلمين بلغة «الهوسا» فى هذا الجزء من القارة الذى يعرف الآن بنيجيريا كانوا يعيشون متجاورين، ويتكلمون لغة واحدة، ويدين معظمهم بالإسلام، فإنهم لم يعيشوا تحت حكم دولة واحدة، بل كَوَّنُوا سبع إمارات صغيرة، تُعرف باسم إمارات أو ممالك «الهوسا»، وهى: «كانو»، و«كاتسينا»، و«زاريا»، و«جوبير»، و«دورا»، و«رانو»، و«زمفرة».

ويرى بعض الباحثين أن «دورا» هى أقدم هذه الإمارات، وأن دماء أهلها وافدة من «مصر العليا» و«الحبشة» وبلاد العرب، و«كاتسينا» التى كانت تتوسط هذه الإمارات، و«زاريا» أوسعها أرضًا، و«كانو»أغناها، و«جوبير» أجدبها، وتقع فى شماليِّها.

وعلى ذلك فقد كانت كل إمارة من هذه الإمارات مستقلة عن الأخرى، وكانت الحروب تندلع فيما بينها فى فترات كثيرة؛ نتيجة لأطماع حكامها فى فرض سيطرتهم، كل على الآخر؛ أو نتيجة لتحالف أحدهم مع القوى الكبيرة المجاورة لبلاد «الهوسا» وهى دولة «البرنو» الإسلامية من الشرق، ودولة «مالى» ثم دولة «صنغى» الإسلامية من الغرب.


وقد اشتهر الهوسويون بالمهارة فى الزراعة والصناعة والتجارة، وقد استغلوا موقع بلادهم المتوسط بين «السودان الغربى» و«السودان الشرقى» فى الاشتغال بالتجارة، ولذلك مهروا فى هذه الحرفة، وكانوا من أكثر التجار مغامرة، وكانت قوافلهم تخترق

الصحراء الكبرى ثلاثة أشهر من كل عام؛ لتزوِّد «طرابلس»، و«تونس» وغيرهما من بلدان شمال إفريقيا بمنتجات بلاد «السودان» من ذهب وعاج ورقيق.

كما اخترقت قوافلهم مناطق الغابات فى الجنوب؛ حيث وصل نشاطهم التجارى إلى «نوب»، واتجهوا شرقًا إلى «برنو»؛ حيث فتحوا طريقًا للتجارة عام (856هـ= 1452م)، وتوغَّلوا فى الجنوب حتى حوض «فولتا» الأوسط.


وقد أصبحت طرق التجارة الخارجية، وخاصة التى تخرج من بلاد «الهوسا»، متجهة شمالا إلى «أهير» وتتصل عندها بالطرق الرئيسية المتجهة إلى «غات» و«غدامس» و«فزَّان» و«تكدا» و«برنو» مفتوحة ومستعملة بطريقة كافية ومنظمة، وأصبحت مألوفة جدا للمسافرين والتجار؛ مما شجَّع العلماء والباحثين على زيارة بلاد «الهوسا» بكل سهولة وارتياح، كما شجَّع التجار المغامرين على ارتيادها.


وقد أدَّى هذا كله إلى انتشار الإسلام، ونموِّ الحركة الفكرية، وازدياد تأثير الثقافة العربية الإسلامية، وسيطرة تجار «الهوسا» على النشاط التجارى فى جميع أنحاء «السودان الأوسط»، وتضخمت جالياتهم فى كل المراكز التجارية المهمة، وأصبحت لغتهم لغة التخاطب العامة فى الأسواق والمعاملات المالية والتجارية، وازدادت سيطرتهم على التجارة فى بلاد «السودان» بعد انهيار سلطنة «صنغى» الإسلامية أمام الغزو «المرَّاكُشى» سنة (1000هـ = 1591م)، مما أدَّى إلى تحول المجرَى الرئيسى للحركة التجارية إلى بلاد «الهوسا»، وقفزت «كانو» و «كاتسينا» بصفة خاصة إلى مكان الصدارة والشهرة باعتبارهما مركزين مهمين من مراكز التجارة والحضارة فى ذلك الحين، وبخاصة بعد أن أصبحتا من أهم مراكز الإسلام فى تلك المنطقة من بلاد «الهوسا».


وقد انتشر الإسلام فى إمارات «الهوسا» السبع فى فترة مبكرة إذ دخل الإسلام فى إمارة «كانو» فى أواخر القرن الثانى عشر الميلادى، وفى باقى الإمارات فى أوائل القرن الرابع عشر الميلادى، وكان لاعتناق حكام إمارات «الهوسا» الإسلام، بالإضافة

إلى ما اتَّسمُوا به من العدالة وحب الرعية أثر كبير فى انتشار الإسلامبين الناس، فازداد تمسكهم به وازداد تفانيهم وإخلاصهم له.
وبعد انتشار الإسلام فى هذه الإمارات، كثر وفود العلماء إليها للدعوة ونشر الإسلام وتصحيح العقيدة بين أهلها، فقاموا بإنشاء عدد كبير من المساجد كمراكز لنشر الدعوة الإسلامية فى هذه الإمارات وما حولها من المناطق الأخرى، ونجحوا فى القضاء على الوثنية التى كانت منتشرة بين السكان قبل دخولهم فى الإسلام.

وقد وجد هؤلاء العلماء فى هذه الإمارات الأمن والطمأنينة، مما دفعهم إلى إحضار مؤلفاتهم، وبخاصة فى علوم اللغة والأدب والتوحيد، ورحَّب بهم حكام هذه الإمارات، فازدهرت الثقافة واتسعت مجالاتها بجهود هؤلاء العلماء، كما ازداد عدد الرجال المتعلمين؛ حيث كان العلماء يعلِّمون الناس الآداب والثقافة الإسلامية باللغة والحروف العربية.


ومن العلماء الذين يرجع إليهم الفضل فى نشر الإسلام والثقافة الإسلامية فى هذه الإمارات الشيخ «عبدالرحمن زيد» الذى مارس نشاطه فى الدعوة فى إمارة «كانو»، والشيخ «محمد بن عبدالكريم المغيلى» فقيه «توات» الشهير الذى رحل إلى «كانو» و «كاتسينا»، ونشر فيهما عقيدة الإسلام الصحيحة، والشيخ «عبده سلام» الذى أحضر معه كتب «المدوَّنة» و «الجامع الصغير» والشيخ القاضى «محمد بن أحمد بن أبى محمد التاذختى» المعروف باسم «أيد أحمد» بمعنى «ابن أحمد» الذى وَلِىَ قضاء «كاتسينا» وتُوفِّى نحو سنة (936هـ = 1529م)، وغيرهم.


وقد كان للتجار - أيضًا - دور كبير فى نشر الإسلام فى هذه الإمارات، بل كان لهم الدور الأول فى معرفة هذه الإمارات بالإسلام، كما أدَّى انتشار الإسلام إلى ازدهار التجارة ازدهارًا كبيرًا، بسبب كثرة احتكاك هذه الإمارات بالمدن المجاورة لها.

وعلى أية حال فقد كان لجهود العلماء والتجار القادمين إلى بلاد «الهوسا» والمحليين أثرها الكبير فى نشر الإسلام فى هذه البلاد منذ القرن الثانى عشر الميلادى، وأصبحت «كانو»، و «كاتسينا»، و «زاريا» وغيرها من بلاد «الهوسا» مراكز إسلامية فى هذه البقاع من القارة، وتألَّقت فيها الثقافة الإسلامية، وكان لها فضل كبير فى نشر الثقافة الإسلامية بين سكانها وغيرهم من البلاد المجاورة، فإمارة «كانو» يرجع إليها الفضل فى نشر الإسلام شرقًا حتى حدود «برنو»، وإمارة «زاريا» يرجع إليها الفضل فى نشر الإسلام فى أواسط بلاد «الهوسا»، وجنوبيها فى حوض «نهر فولتا»، وكان علماء «تمبكت» - التى تقع على نهر «النيجر» - يرحلون إلى هذه الإمارات، كذلك رحل إليها علماء من «مصر»، من أبرزهم الإمام «جلال الدين السيوطى» المتوفى سنة (911هـ = 1505م) والذى نشأت بينه وبين أمير «كاتسينا» علاقة طيبة، وهناك ما يدل على أن الإمام «السيوطى» رحل إلى هذه الإمارة وعاش فيها زمنًا، يعلِّم الناس ويفتيهم، وعاد إلى «مصر» سنة (876هـ = 1471م)، واتصلت المراسلات بينه وبين علماء هذه البلاد، كما اتصلت بينهم وبين علماء «مصر» وبلاد «الحجاز» وغيرهما، مما يدل على التواصل الإسلامى، وعلى صلة بلاد «الهوسا» بالعالم الإسلامى سواء فى إفريقيا، أو فى غيرها من القارات.

المصدر 

الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
الاعضاء الذين شكروا صاحب المشاركة السيد محمد حسن

الأحد، 20 ديسمبر 2015

سلطنة الكانم والبرنو الإسلامية

سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
سلطنة الكانم والبرنو الإسلامية
(الحلقة الخامسة)
[479 - 1262هـ = 1086 - 1846م]

قامت هذه السلطنة فى «بلاد السودان الأوسط» الذى يتكون من حوض «بحيرة تشاد» وما تقع حواليها من بلدان تمتد من «نهر النيجر» غربًا إلى «دارفور» شرقًا، وكانت منطقة «بحيرة تشاد» مهد سلطنة «الكانم والبرنو».
وقد ضمَّت هذه الدولة عددًا كبيرًا من القبائل والعناصر، فهناك قبائل «الصو»، وقبائل «الكانمبو»، وقبائل «الكانورى» وهى خليط من العرب والبربر والزنوج، وهؤلاء يكوِّنون أغلب سكان هذه السلطنة، يضاف إلى ذلك قبائل «التبو» (التدا) من البربر، وكذلك «بربر الطوارق» من سكان المناطق الشمالية الصحراوية، وكذلك قبائل العرب الذين كانوا يُعرَفون هناك باسم (الشوا)، وقد قدموا إلى «تشاد» من «وادى النيل»، ومن القارة عبر الصحراء، وكانوا يتمثَّلون فى قبائل «جذام» و«جهينة» و«أولاد سليمان»، وقد أدَّى اختلاط هؤلاء العرب بالوطنيين إلى ظهور عناصر جديدة، منها: «التنجور» و«البولالا» و«السالمات» وغيرهم. 

وينقسم تاريخ هذه السلطنة إلى عصرين: عصر سيادة «كانم»، ثم عصر سيادة «برنو»، ويقع إقليم «كانم» - الذى كان مهدًا لقيام هذه الدولة - فى الشمال الشرقى لبحيرة تشاد وبه العاصمة «جيمى»، أما إقليم «برنو» فإنه يقع غرب هذه البحيرة، وبه العاصمة «بيرنى نجازرجامو» التى انتقل الحكم إليها بعد انقضاء عصر سيادة «كانم». 


وقد قامت هذه الدولة فى القرن التاسع للميلاد على يد أسرة من البربر البيض هى الأسرة «الماغومية السيفية»، التى تزعم أنها من أصل عربى من نسل «سَيْفِ بن ذِى يَزن الحِمْيَرِى»، واستطاعت هذه الأسرة أن تسيطر على حوض «بحيرة تشاد»، وأن تتخذ من مدينة «جيمى» عاصمة لها، وبدأ الإسلام يطرق أبواب هذه الدولة منذ قيامها، وخاصة من الشمال والشرق على يد التجار والمهاجرين الذين توافدوا عليها فى القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. وتتحدث المصادر عن قيام داعية إسلامى كبير هو الفقيه «محمد بن مانى»، الذى عاش فى القرن الحادى عشر الميلادى، وعاصر خمسة من ملوك «الكانم» الذين كانوا يعرفون باسم «المايات» (جمع ماى، وهو لقب بمعنى: ملك)، أولهم «الماى بولو» الذى كان يحكم نحو (411هـ = 1020م) وآخرهم هو «الماى أوم بن عبدالجليل» الذى بدأ حكمه فى عام (479هـ = 1086م) وهو الذى جعل الدين الإسلامى دينًا رسميا للدولة، وذلك نتيجة لجهود هذا الداعية العظيم الذى أسلم على يديه هؤلاء المايات الخمسة، وقد قام آخرهم وهو «الماى أوم بن عبدالجليل» (479 - 490هـ = 1086 - 1097م) بجهد كبير فى نشر الإسلام فى بلاده، ثم اتَّجه إلى الشرق، وذهب إلى بلاد «الحجاز» لأداء فريضة الحج، ولكن المنية وافته بمصر أثناء عودته من أداء هذه الفريضة، فدُفِنَ بها، ومنذ عهد هذا الماى لم يتول حكم دولة «الكانم» أى ملك وثنى، وأصبحت منذ ذلك التاريخ دولة إسلامية. 


خلف «الماى دونمة بن أوم» والده فى حكم البلاد لفترة طويلة (491 - 546هـ = 1097 - 1151م) وبلغت فى عهده دولة «الكانم» درجة كبيرة من القوة والاتساع وطبقت شهرته الآفاق، وحج ثلاث مرات. وفى عهده بُنيت مدرسة «ابن رشيق» فى «فسطاط مصر» بأموال كانمية؛ كى تكون موئلا للحجاج القادمين من «كانم» وبلاد «التكرور». وتابع خلفاؤه العمل على توسيع حدود هذه الدولة حتى صارت إمبراطورية 
كبيرة، وخاصة فى عهد «الماى دونمه بن سالم بن بكر» (618 - 657هـ = 1221 - 1259م) الذى اشتهر بقوة فرسانه، وكثرتهم حتى قيل إنها بلغت نحوًا من (41) ألف فارس، ويُعرف هذا الماى باسم «دونمه دباليمى»، نسبة إلى والدته «دابال»؛ حيث كانت النسبة إلى الأم شيئًا مألوفًا ومشهورًا فى هذه السلطنة بالذات.

وقد حارب هذا الماى القبائل المتمردة، مثل قبائل «البولالا» الذين كانوا يعيشون فى حوض بحيرة «فترى الصغيرة» الواقعة إلى الشرق من «بحيرة تشاد»، وأخضعها وأقام علاقات طيبة مع «الدولة الحفصية» فى «تونس». 


واتسعت الإمبراطورية فى عهده حتى وصلت شرقًا إلى مشارف «وادى النيل»، وغربًا قرب نهر «النيجر»، مما يعنى أن بلاد «الهوسا» التى تشكِّل الآن «نيجيريا الشمالية» كانت تحت سيادته وسلطانه، كما امتدت حدود بلاده شمالا حتى وصلت قرب «فزان» الليبية واقتربت مساحتها من مساحة إمبراطورية «صنغى» الإسلامية التى سبق الحديث عنها، ولكن هذه الإمبراطورية الكبيرة لم تلبث أن دبَّ إليها الوهن نتيجة لعوامل كثيرة، منها الانقسامات التى ظهرت بين أبناء الأسرة الحاكمة، وظهور خطر قبائل «الصو»، التى كانت تسكن فى إقليم «بورنو» وقيامها بمهاجمة عاصمة الدولة؛ وتمكنها من قتل أربعة من المايات. كذلك اشتد خطر البولالا الذين ازدادوا ضراوة بعد أن تمكَّنوا من إقامة سلطنة صغيرة لهم فى حوض «بحيرة فترى» واتخذوها مركزًا لمناوأة أبناء عمومتهم من مايات «الكانم والبرنو». وقد استطاعت سلطنة «البولالا» التى ظهرت قوتها فى عهد سلطانها «عبدالجليل بن سيكوما» أن تشن حربًا شرسة ضد الأسرة «السيفية الماغومية» الحاكمة فى «كانم»، وتمكن «عبدالجليل» هذا من أن يقتل أربعة من المايات من هذه الأسرة.


وقد انتهى أمر الصراع بين الفريقين إلى طرد الأسرة «السيفية» الحاكمة فى «كانم» إلى إقليم «بورنو» الذى يقع غرب «بحيرة تشاد»، وذلك فى عهد «الماى عمر بن إدريس» (788 - 793هـ = 1386 - 1391م) الذى استأنف حكمه من إقليم «برنو» فيما يعرف بعصر سيادة «برنو»، هذا العصر الذى امتد حتى نهاية الدولة فى عام (1262هـ = 1846م)، وقد ترك طرد الماغوميين السيفيين إلى «برنو» فراغًا سياسيا فى «كانم»، ملأه «البولالا» الذين أقاموا سلطنة كبيرة ضمت هذا الإقليم بالإضافة إلى إقليم «بحيرة فترى» والمناطق المحيطة بها فى حوض «بحيرة تشاد». ورغم ذلك فقد استمر الصراع بين «البولالا» وبين الماغوميين فى مقرِّهم الجديد الذى جعلوه مركزًا لدولتهم، وبنوا فيه مدينة تسمى «بيرنى نجازرجامو» واتخذوها عاصمة لهم. ولما تطلعوا إلى إعادة نفوذهم فى «كانم»؛ وقعت حروب كثيرة بينهم وبين سلاطين «البولالا»، وتبادل الفريقان النصر والهزيمة، وخاصة فى عهد «الماى إدريس بن عائشة» (908 - 932هـ = 1502 - 1526م) الذى أنزل بالبولالا هزيمة ساحقة، واستولى على العاصمة «جيمى» وأقام فيها فترة ثم عاد إلى عاصمته «بيرنى».


وتابع ابنه «الماى على بن إدريس» (952 - 953هـ = 1545 - 1546م) محاربة «البولالا» حتى لُقِّب بحارق «البولالا»، ولم يلبث أن لَقِىَ حتفه فى إحدى المعارك معهم. ولم يقضِ على خطرهم إلا «الماى إدريس ألوما» (978 - 1011هـ = 1570 - 1602م) الذى أقام معهم علاقة طيبة نتيجة ارتباط البيت البولالى بالأسرة السيفية برباط المصاهرة، مما سهل على هذا الماى أن يقضى على خطر «البولالا» وأن يعيد نفوذ أسرته إلى إقليم «كانم»، ووصلت الإمبراطورية فى عهده إلى 
أقصى اتساعها وقوتها وازدهارها.

وكما تكالبت عوامل الضعف الداخلية والخارجية على إمبراطوريتى «مالى» و «صنغى» حتى سقطتا، فقد تعرَّضت إمبراطورية «البرنو» للظروف نفسها وشهدت النتيجة نفسها ذلك أن الماى «إدريس ألوما» الذى بلغت الإمبراطورية فى عهده قمتها وازدهارها خلفه حكام ضعاف لم يكونوا فى مثل قوته وحزمه، بلغوا خمسة عشر سلطانًا على مدى قرنين ونصف قرن من الزمان، حدث فى أثنائها كثير من الوقائع التى أدَّت إلى القضاء على الإمبراطورية، فبالإضافة إلى ضعف هؤلاء المايات أو السلاطين أصيبت البلاد بموجة من المجاعات المتلاحقة وصلت إلى خمس مجاعات، استمرت إحداها أربع سنوات، وأخرى سبع سنوات، ويدل تكرار حدوث هذه المجاعات على التدهور 
السريع والضعف العام الذى أصاب البلاد نتيجة إهمال الزراعة وكثرة الفتن والاضطرابات، فضلا عن ظهور أخطار جديدة تمثلت فى ظهور قبائل وثنية فى منطقة «جومبى» تُسمى قبائل «كوارارافا»اشته رت بالقوة والشجاعة، وتمكنت من اجتياح الأقاليم الغربية في «برنو»، كما حدثت حروب بين «برنو» وجيرانها من إمارات «الهوسا» وخاصة إمارة «كانو» فى النصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادى، غير أن أخطر ما تعرضت له إمبراطورية «البرنو» هو خطر «الفولانيين» وهم قبائل بيضاء انحدرت من الشمال وأقامت فى غربى القارة، ثم انحدرت إلى الشرق واستقرَّت فى إمارات «الهوسا» التى تتكون منها «نيجيريا» الشمالية الآن، وقامت على يد زعيمها الشيخ «عثمان بن فودى» بحركة ضخمة لنشر الإسلام بين من كان على الوثنية فى هذه الإمارات، وتمكنت من ضم هذه الإمارات في دولة واحدة تحت زعامة هذا الداعية الكبير، الذى أعلن قيام دولة «الفولانى» فى بداية القرن التاسع عشر الميلادى هذا في الوقت الذى كانت إمبراطورية «البرنو» تزداد ضعفًا على ضعف وتلقى سلطانها «الماى أحمد بن على» (1206 - 1223هـ = 1791 - 1808م) أكثر من هزيمة على يد الفولانيين فى عهد الشيخ «عثمان بن فودى» حتى اضطر هذا الماى إلى استدعاء أحد الكانميين والعلماء البارزين ويدعى الشيخ «محمد الأمين الكانمى» لمساعدته فى محنته ضد هذا الغزو الفولانى، واستجاب هذا الزعيم لهذا الطلب وتبادل عدة رسائل مع الشيخ «عثمان بن فودى»، كل منهما يحاجج الآخر عبرمناقشات فقهية يبرر كل منهما سياسته، ولكن هذه الرسائل لم تؤدِّ إلى إزالة حالة الحرب القائمة بين الفريقين، وأخيرًا نجح الفولانيون فى الاستيلاء على عاصمة «برنو» فاضطر الماى إلى الهرب منها ولجأ إلى الشيخ محمد الأمين الذى أصبحت له السيطرة الكاملة على المايات الذين صاروا حكامًا بالاسم فقط.

استمر الشيخ «محمد الأمين» يحكم ما بقى من إمبراطورية «البرنو» و«الكانم» وأجرى مفاوضات مع سلطان الفولانيين «محمد بلو» الذي خلف أباه الشيخ «عثمان بن فودى» فى زعامة الفولانيين، واتخذ مدينة «سوكوتو» عاصمة له، وأرسل له الشيخ الكانمى رسائل أوضح له فيها أنهم أهل دين واحد هو الإسلام، وأنه لا ينبغى أن يحارب بعضهم بعضًا وأن كلا منهما يجب أن يحترم حدود الآخر، فهدأت الأحوال بين الدولتين حتى تُوفِّى الشيخ «محمد الأمين الكانمى» فى عام (1251هـ = 1835م) وخلفه ابنه الشيخ «عمر». 


وفى عهد هذا الشيخ حاول «الماى إبراهيم بن أحمد» (1232 - 1262هـ = 1817 - 1846م) أن يسترد سلطاته التى سلبها منه الشيخ «محمد الأمين» ثم ابنه «عمر»، واستعان فى ذلك بأمير دويلة صغيرة تقع بين «كانم» و «دارفور» تُسمَّى «واداى» وتآمر معه لغزو «برنو».


ونفذ أمير «واداى» الخطة المتفق عليها وأباد جيش «برنو» فى (1262هـ = 1846م) منتهزًا فرصة غياب الشيخ «عمر» عن العاصمة؛ لحرب كانت واقعة بينه وبين أحد جيرانه الآخرين، ولما علم هذا الشيخ بنبأ هذا الغزو وهذه المؤامرة عاد إلى «برنو»، وأخرج الغزاة منها نظير مبلغ كبير من المال دفعه لهم، وقبض على الماى «إبراهيم» ومستشاريه وأعدمهم جميعًا، ثم تخلَّص من الماى «على بن دالاتو» عام (1262هـ = 1846م) الذى لم يحكم سوى أربعين يومًا وكان مفروضًا عليه كشرط لرحيل جيش أمير «واداى» عن «برنو». 


وبمقتل «على بن دالاتو» انتهى حكم الأسرة «السيفية الماغومية» التى ظلت تحكم هذه البلاد أكثر من ألف عام، وأصبحت «برنو» تحت حكم الأسرة الكانمية فِعليا ورسميا منذ ذلك التاريخ وحتى وقوعها فى قبضة الاستعمار الفرنسى فى عام (1318هـ = 1900م)، وقد أعيد تقسيم أملاك إمبراطورية «برنو» بين «إنجلترا» و«فرنسا» و«ألمانيا» بعد القضاء على مقاومة أحد المجاهدين ضد الاستعمار الأوربى وهو «رابح الزبير». فأخذت «فرنسا» إقليم «كانم»، وأخذت «إنجلترا» إقليم «برنو»، وظفرت «ألمانيا» بالمناطق الجنوبية لبرنو، وهكذا تلاشت إمبراطورية «برنو» التاريخية على يد الغزاة الأوربيين فى بداية القرن العشرين الميلادى، وظل الأمر على هذا النحو حتى قامت حركة الكفاح الوطنى فى هذه المنطقة ضد المستعمر الأوربى، وتكللت جهودها بالنجاح وظفرت بالاستقلال، وقامت على أنقاض إمبراطورية «الكانم والبرنو» عدة دول حديثة، هى جمهورية «تشاد» التى استقلَّت عن «فرنسا» فى عام (1380 هـ = 1960م)، وهى دولة إسلامية يدين (85%) من سكانها بالإسلام، ويتكلمون اللغة العربية بجانب اللغات المحلية واللغة الفرنسية هى اللغة الرسمية، وجمهورية «إفريقيا الوسطى» التى استقلَّت عن «فرنسا» فى العام نفسه أيضًا، وتضم هذه الدولة الأطراف الجنوبية من إمبراطورية «البرنو» التاريخية، ولذلك فإن نسبة المسلمين فيها قليلة. وجمهورية «النيجر» التى استقلَّت عن الفرنسيين فى العام نفسه، وضمت أغلب الأجزاء الشمالية الغربية من إمبراطورية «البرنو» ولذلك فإن (95%) من سكانها مسلمون يتكلمون اللغة العربية بجانب اللغات المحلية، واللغة الفرنسية هى اللغة الرسمية، و «نيجيريا» التى استقلَّت عن «إنجلترا» فى عام (1381هـ = 1961م) وضمت إقليم «برنو» الذى يقع غرب «بحيرة تشاد»، كما ضمت جميع بلاد «الهوسا»، وأكثر من (70%) من سكانها مسلمون يتكلم الكثير منهم اللغة العربية ولغة الهوسا بجانب اللغة الإنجليزية، وهى اللغة الرسمية، كذلك ضمت «جمهورية الكمرون» التى استقلَّت عن «فرنسا» فى عام (1380هـ = 1960م) وتضم بعض الأجزاء الجنوبية والجنوبية الشرقية من «برنو»، وكذلك فإن هذه الدولة دولة إسلامية؛ إذ إن أكثر من (55%) من سكانها مسلمون، واللغة الفرنسية هى السائدة بجانب اللغة العربية واللهجات المحلية.


وإذا كنا قد تحدثنا عن التاريخ السياسى لسلطنة «الكانم والبرنو» منذ أن أصبحت دولة إسلامية فى عام (479هـ= 6801م) وحتى نهايتها على يد الاستعمار الفرنسى، فإن الواجب يحتم علينا أن نتحدث باختصار عن الطابع الإسلامى ومظاهر الحياة الإسلامية فى هذه السلطنة الكبيرة.


وفى هذا الصدد نستطيع القول بأن سلطنة «الكانم والبرنو» قد قامت «مصر» و«البرنو»، من ذلك رسالة أوردها «ابن فضل الله العُمَرِى» و«القَلْقَشَنْد ِى» وأشارت إلى استغاثة سلطان «البرنو» بسلطان «مصر» «الظاهر برقوق» فى عام (795هـ = 1393م) لمساعدته في القضاء على تمرد القبائل العربية التى ساعدت خصومه السياسيين من «البولالا».


كذلك كانت هناك علاقات ثقافية وتجارية بين «مصر» وسلطنة «الكانم والبرنو» من ذلك ما ترويه لنا المصادر من أن «الأزهر» كان به رواقٌ خُصِّص للطلاب القادمين من هذه السلطنة يُسمَّى «رواق البرنوية» كما سمحت «مصر» للكانميين بإنشاء مدرسة تُسمَّى مدرسة «ابن رشيق» فى مدينة «الفسطاط» بمصر لتدريس الفقه المالكى؛ ولكى تكون مقرا ينزل به حجاج «البرنو». 


أما العلاقات التجارية فقد ازدادت بين «مصر» وبلاد «الكانم والبرنو»، ومما يدل على ذلك أن طائفة من أهل «كانم» اشتهرت باسم «التجار الكارمية» رحلوا إلى «مصر» وأقاموا فيها واشتركوا بنصيب موفور فى تجارتها الخارجية وخاصة فى تصريف المحاصيل السودانية، وتجارة البهار القادمة من «اليمن» و «الهند» و «الصين»، واتخذت من مدينة «قوص» بصعيد «مصر» مركزًا لها. وكان لهؤلاء التجار الذين عُرِفوا بالتقوى والورع فضل كبير فى نشر الإسلام وخاصة فى بلاد الحبشة.


كذلك كان لسلطنة «الكانم والبرنو» علاقات تجارية وثقافية مع شمال إفريقيا وخاصة «تونس» فقد اتصل سلاطين «الكانم» بحكامها من «بنى حفص» وتبادلوا الرسائل والهدايا، من ذلك سفارة أرسلها الماى «عبدالله بن كادى» إلى السلطان الحفصى «أبى يحيى المتوكل» فى عام (727هـ = 1307م)، كذلك تبودلت الرسائل والسفارات مع «طرابلس» فى عام (908هـ = 1502م) وسفارة بعث بها أيضًا فى عام (941هـ = 1534م) وأخرى فى زمن الماى «إدريس ألوما» المتوفَّى عام (1011هـ = 1602م) كذلك نشطت العلاقات التجارية بين «برنو» وهذه البلدان.

ويمثل الجهاد قمة إيمان السلطنة بالإسلام، فقد اتخذه سلاطينها طريقًا لرد العدوان والتعريف بالإسلام بين الوثنيين الذين كانوا يقومون بالاعتداء على هذه الدولة الإسلامية، وخاصة الوثنيين المقيمين فى الجنوب، فقد حاربهم السلاطين ودخل كثير منهم في الإسلام، بالإضافة إلى اتِّباع أسلوب الإقناع الذى اتبعه بعض السلاطين وخاصة السلطان «إدريس ألوما»، الذى اشتهر ببناء المساجد الضخمة من الحجارة، وطبق الشريعة الإسلامية خاصة فى معاملة الأسرى، ونظم الجهاد بما يتمشى مع تعاليم الإسلام، فازداد الدخول فى هذا الدين وانتشر فى منطقة «بحيرة تشاد» كلها.

كذلك فقد شجع سلاطين «الكانم والبرنو» انتشار الثقافة العربية الإسلامية، فأكثروا من بناء المساجد والكتاتيب، وكانت اللغة العربية هى لغة التعليم ولغة الحكومة الرسمية، فضلا عن كونها لغة المعاملات التجارية ولغة المراسلات الدولية، كما كان الحال فى جميع الدول الإسلامية التى قامت فى بلاد «السودان الغربى»، وظلت الحال على هذا النحو حتى عصر الاستعمار الأوربى الذى قضى على اللغة العربية ولم يعد لها إلا وجود محدود بين قليل من الأهالى، ووجود كبير فى المدارس الدينية الإسلامية. 


وفى ظل تشجيع سلاطين «الكانم والبرنو» للثقافة الإسلامية ارتقى العلماء والفقهاء منزلة رفيعة، وحرص السلاطين على رعايتهم والإغداق عليهم، وإصدار المحارم (أى الفرمانات) التى كانوا يمنحونهم بمقتضاها كثيرًا من الامتيازات المادية والإقطاعات، ويحرِّمون على أى شخص مهما بلغت منزلته وقدره أن يسلبهم شيئًا منها. ولذلك ظهر فى هذه السلطنة كثير من العلماء والفقهاء، منهم الفقيه «محمد بن مانى» الذى سبق الحديث عنه، والإمام «أحمد بن فرتو» الذى كان معاصرًا للماى «إدريس ألوما»، والذى تعد كتاباته المرجع الرئيسى لتاريخ «برنو»، والعالم الكبير «عمر بن عثمان بن

إبراهيم»، والعالم «عبداللاه ديلى بن بكر»، وغيرهم من العلماء الذين صدرت لهم محارم (فرمانات) تشجيعًا لهم على التفرُّغ للعلم والبحث والتدريس؛ مما أدَّى إلى انتشار العلوم الإسلامية بين أهالى هذه البلاد.

المصدر 

الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي
نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
الاعضاء الذين شكروا صاحب المشاركة السيد محمد حسن

أعظم ممالك السودان الغربي

سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
أعظم ممالك السودان الغربي
سلطنة صنغي الإسلامية التي أعز الله بها الإسلام في الغرب الافريقي
(الحلقة الرابعة)
[777 - 1000هـ = 1375 - 1591م]

بدأت سلطنة «صنغى» (صنغاى- سنغاى) دويلة صغيرة لا تختلف من حيث قيامها عن سلطنة «مالى» أو «غانة» فقد تدفقت بعض قبائل مغربية - وخاصة قبائل «لمطة» - فى نحو منتصف القرن السابع الميلادى إلى الضفة اليسرى لنهر «النيجر» عند مدينة «دندى»، وسيطروا على الزراع من أهل «صنغى».
ورحب هؤلاء بهم ليحموهم من الصيادين الذين كانوا يعتدون عليهم ونجح هؤلاء الوافدون فى تكوين أسرة حاكمة استفادت إلى حد كبير من العلاقات التجارية مع «غانة» و «تونس»، و «برقة» و «مصر»، وكانت هذه العلاقات التجارية ذات أثر بعيد فى تحويل ملوك «صنغى» إلى الإسلام فى بداية القرن الحادى عشر الميلادى إبان النهضة الإسلامية التى اضطلع بها المرابطون فى ذلك الوقت لنشر الإسلام فى غربى القارة.

رأى ملوك «صنغى» أن ينقلوا حاضرة ملكهم من «****ا» إلى «جاو» لتكون على مقربة من طرق القوافل الرئيسية. 

ومدينة «جاو» زارها البكرى عام (460هـ = 1068م) وقال: «إن مدينة كوكوا (جاو) مدينتان، مدينة الملك ومدينة المسلمين، وإذا وُلِّى منهم ملك دُفع إليه خاتم وسيف ومصحف يزعمون أن أمير المؤمنين بعث بذلك إليهم، وملكهم مسلم لا يملِّكون غير المسلمين»، كما زارها «ابن بطوطة» فى منتصف القرن الرابع عشر للميلاد، وقال عنها: إنها مدينة كبيرة تقع على نهر «النيجر»، وهى من أحسن مدن «السودان» وأكبرها وأخصبها، وقد قابل فيها فقهاء ينتسبون إلى بعض قبائل البربر.

وكانت «جاو» والبلاد التابعة لها تشكل جزءًا من سلطنة «مالى» (777هـ = 1375م)، عندما تحرك ملوك «صنغى»، واستردوا استقلالهم منتهزين فرصة الضعف الذى أخذ يظهر فى دولة «مالى» منذ ذلك الوقت واتخذوا لقب «سُنِّى» أو «السُّنِّى».


وأخذت بلادهم تتسع فى عهد «سنى على» (868 - 897هـ = 1464 - 1492م) الذى كون جيشًا كبيرًا منظمًا سار على رأسه إلى الغرب،واستولى على مدينة «تمبكت» (873هـ = 1468م)، ثم على مدينة «جنِّى» (878هـ = 473م)، وفتح مملكة «الموسى» وضمها إلى دولته، وتقدم شرقًا فهاجم بعض إمارات «الهوسا» فخضعت له «كاتسينا» و«جوبير» و«كانو» و«زمفرة» و«زاريا»، ثم اتجه غربًا فاستولى على بلاد «الماندنجو» و «الفولانى»، ومعظم ممتلكات دولة 

«مالى» الإسلامية، واتجه شمالا حتى مواطن الطوارق. وبذلك أسس «سنى على» إمبراطورية «صنغى» الإسلامية، وكان أول إمبراطور لها، حتى مات فى ظروف غامضة، وبموته انتقل الحكم إلى أسرة جديدة أسسها أحد قواد «السوننكى»، وهو «أسكيا محمد الأول» بعد إعلانه الثورة على ابن «سنى على» واستيلائه على السلطة.

و«أسكيا» لقب يعنى «القاهر» وقام بتنظيم شئون البلاد من الناحية الإدارية، واستخدم طائفة من الموظفين الأكفاء، كما نظم الجيش وأفاد من الخبرات السابقة، واتخذت حركته مظهرًا إسلاميا واضحًا نتيجة عاملين قام بهما:

الأول: هو اهتمامه بالشئون الدينية واستغلاله ثروة سلفه فى النهوض بها وقيامه بالحج إلى البيت الحرام فى مكة (900هـ = 1495م)، وكان موكبه فى موسم الحج يفوق ما عرف عن موكب ملوك «مالى»، من حيث الأبهة والفخامة، واستردت «تمبكت» فى عهده مكانتها كمركز للثقافة الإسلامية فى غربى إفريقيا، وبلغ من شهرتها أن ملك
«صنغى» كان ينسب إليها.
والعامل الثانى: هو الجهاد الذى قام به بغرض توسيع رقعة بلاده، ونشر الإسلام بين الوثنيين من جيرانه «الماندنجو» و«الفولانى» فى الغرب «والطوارق» فى الشمال، وقبائل «الموسى» الزنجية فى الجنوب، «والهوسا» فى الشرق فى مدن «كتسينا» و«غوبير» و«كانو» و«زنفروزاريا» وقد خضعت هذه المدن كلها لهذا الملك عام (919هـ = 1513م)، وكان هذا بداية لظهور الثقافة الإسلامية فى هذا الجزء من شمال «نيجيريا».

وقد أشار كثير من المؤرخين السودانيين إلى أن علماء من «تمبكت» رحلوا إلى هذه الجهات الخاضعة لنفوذ «صنغى»، وأقاموا هناك يفقِّهون الناس فى الدين وينشرون الثقافة الإسلامية، حتى امتد النفوذ الإسلامى إلى منطقة «بحيرة تشاد»، وبلغت إمبراطورية «صنغى» أقصى اتساع لها، فقد شمل نفوذها منطقة «السافانا» كلها من الشرق إلى الغرب، واستطاع «أسكيا محمد الأول» أن ينشر الأمن والسلام فى جميع ربوع هذه المملكة الشاسعة الأرجاء، بتنظيماته الإدارية والعسكرية الرائعة التى قام بها بين صفوف الجيش والإدارة.


لكن حكمه آذن بالزوال حينما أصيب بالعمى وانتابه المرض وتآمر عليه أولاده، وعزله أحدهم عن الحكم فى عام (935هـ = 1529م). 


وظل القواد والمغامرون يتنافسون من أجل السيطرة على الجيش والحكومة، إلا أن «أسكيا إسحاق الأول» (946 - 956هـ = 1539 - 1549م) استطاع أن يلى العرش بمساندة الجيش، وأن يعيد الأمن إلى نصابه، وأن يقضى على منافسيه، وأن يبعد كبار ضباط الجيش وكبار المسئولين، الذين أساءوا استخدام مناصبهم خلال فترة 
الاضطراب.

وعلى الرغم من ذلك لم يستطع الاحتفاظ بالعرش مدة طويلة، فقد خلفه «أسكيا داود» (1549 - 1582م) الذى عين أنصاره فى الوظائف المهمة واشتهر بحنكته السياسية فأبعد خطر ملوك «مراكش» عن بلاده بالمهادنة والتودد إليهم.

وبعد وفاة «داود» (990هـ = 1582م) أثرت المنازعات التى قامت بسبب العرش تأثيرًا سيئًا على مملكة «صنغى»، فقد كان سلاطين «المغرب» منذ عهد بعيد يتطلعون إلى مناجم الملح فى «تغازة» وإلى السيطرة على تجارة الذهب، وظل ملوك «صنغى» يصدون سلاطين «المغرب» حتى سنة (993هـ = 1585م)، حينما انقسمت البلاد على نفسها، فاستغل «أحمد المنصور الذهبى» سلطان «المغرب» الذى انتصر على البرتغاليين فى موقعة «القصر الكبير» ضعف «صنغى» وسيَّر جيشًا كبيرًا عام (998هـ = 1590م) استولى على العاصمة «جاو» بعد أن هزم قوات «إسحاق الثانى» فى موقعة «تونديبى» وبذلك دخلت البلاد فى طور جديد من أطوار تاريخها وهو طور التبعية والفناء.

لكن واقعة «تونديبى» لم تكن نصرًا للمغرب إلا من الناحية العسكرية؛ 
إذ إنهم لم يحققوا الأغراض التى قاتلوا من أجلها، وهى السيطرة على مناجم الذهب فى غرب إفريقيا، لأن ثروة «صنغى» لم تكن نتيجة امتلاكها الذهب بقدر ما كانت نتيجة لسيطرتها على تجارته مع مواطن إنتاجه، فى «وانجارة» و«يندوكو» و«أشنتى»، وكلها فى جنوب مملكة «صنغى»، وهى تجارة لا تزدهر إلا فى ظل الأمن والسلام الذى قضى عليه سلاطين «مراكش»، الذين لم يستطيعوا أن يمدوا نفوذهم إلى ما وراء المدن الرئيسية «جنى» و«تمبكت» و«جاو»، ولما أدركوا قلة الفوائد التى عادت عليهم من وراء هذا الفتح الذى كلفهم كثيرًا، كفُّوا عن إرسال الجند والمئونة اللازمة إلى قواتهم، وتركوا هذه القوات تقرر مصيرها بنفسها، فنشأت أسرة محلية من باشوات «تمبكت» تدين بالتبعية الاسمية لسلطان «مراكش»، وتعتمد على عنصر خليط من البربر وأهل البلاد، أو المولدين الذين سموا باسم «أرما».

وكان همُّ هؤلاء الباشوات منصرفًا إلى جمع المال وحمل الزعماء المحليين على دفع الإتاوة على أن سلطانهم ضعف تدريجيًا لاعتمادهم على الجيش الذى كان يعزلهم متى شاء، حتى بلغ عدد من تولى منهم بين سنتى (1070هـ=1660م) و(1163هـ= 1750م) نحو (128) باشا، ولما ضعفت قوة الجيش نفسه اضطر الباشوات منذ عام (1081هـ = 1670م) إلى دفع الإتاوة إلى الحكام الوثنيين من ملوك «البمبارا»، وهم ملوك مملكة «سيجو» الوثنية، التى كانت تقع على وادى نهر «بانى» جنوبى «كانجابا» فى حوض «النيجر». 


وظل الأمر على هذا النحو حتى جاء الفرنسيون والتهموا المنطقة بأسرها، وسموها «إفريقية الاستوائية الفرنسية». وبعد نجاح حركة الكفاح الوطنى ضد الاستعمار الفرنسى والإنجليزى؛ ظهرت عدة دول إسلامية حديثة على أنقاض إمبراطورية «صنغى» الإسلامية، وهذه الدول هى: «جمهورية موريتانيا، و«جمهورية غينيا»، و«جمهورية مالى»، و«جمهورية السنغال»، و«جمهورية النيجر»، و«جمهورية نيجيريا»، و«جمهورية جامبيا». 


وإذا كانت دولة «صنغى» قد شابهت دولة «مالى» من حيث تطورها العام، فإنها قد شابهتها أيضًا فى اتخاذها مظهرًا إسلاميا واضحًا، بل فاقتها فى هذه الناحية فى بعض الأحيان، وهذا التطور طبيعى، فقد امتد سلطان «صنغى» إلى القرن السادس عشر الميلادى، وكان الإسلام قد قطع خطوات واسعة فى سبيل النمو والانتشار.


وقد سعى ملوك «صنغى» كما سعى ملوك «مالى» من قبل إلى الاتصال بالقوى الإسلامية المعاصرة، تحقيقًا لروح الأخوة الإسلامية، وفى هذا المجال كان لملوك «صنغى» اتصالات عديدة بملوك المسلمين فى الشرق والغرب.


فقد خرج «أسكيا محمد الأول» إلى الحج ومر بمصر سنة (899هـ= 1494م) فى موكب حافل، وأغدق على الناس والفقراء أكثر مما أغدق أسلافه، فقد روى «السعدى» صاحب كتاب «تاريخ السودان» أنه تصدق مثلا فى الحرمين الشريفين بمائة ألف مثقال من الذهب، واشترى بساتين فى «المدينة المنورة» حبسها على أهل التكرور (أهل دولة صنغى)، واجتمع فى موسم الحج بزعماء المسلمين، وتأثر بما رآه فى «مصر» من نظم الحكم، ومن ثقافة عربية مزدهرة، فاتصل بالإمام «السيوطى» وغيره من علماء العصر، وتلقى تقليدًا من الخليفة العباسى بالقاهرة، وعاد إلى بلده متأثرًا بما رآه من روح إسلامية، وعمل على تطبيق ما تعلمه من آراء وتجارب شاهدها 
بنفسه.

ويقال إن هذا السلطان قلد فى تنظيماته الإدارية النظم التى رآها فى «مصر»، وأمعن فى إحاطة نفسه ببطانة من العلماء الذين كان يحمل لهم كل احترام وتقدير، فقد روى مؤرخو «السودان» أنهم كانوا إذا دخلوا عليه أجلسهم على سريره وقربهم وأمر بألا يقف أحد إلا للعلماء أو الحجاج، وألا يأكل معه إلا العلماء والشرفاء.


كما أبطل البدع والمنكر وسفك الدماء، وأقام الدين والعقائد، وأعطى «جامعة تمبكت» المزيد من عنايته، فتفوقت فى عهده ووصلت إلى ما لم تصل إليه من قبل، وكانت فى غربى «السودان» كجامعة «الأزهر» فى «القاهرة»، أو«القرويين» فى «فاس» أو«الزيتونة» فى «تونس» أو«النظامية» فى «بغداد».


وأصبحت هذه السياسة الإسلامية سياسة مقررة لخلفائه من بعده، فأسكيا إسحاق يسير فى الطريق نفسه، من تشجيع العلماء وإكرامهم والأخذ بيدهم، و «أسكيا داود» يتخذ خزائن الكتب وله نساخ ينسخون الكتب وربما يهادى بها العلماء، وقيل إنه كان 
حافظًا للقرآن الكريم. 

وهذا يدل على أن دولة «صنغى» قد شهدت تمكن الإسلام من أهل غرب إفريقيا، كما شهدت ازدهار الثقافة الإسلامية إلى أبعد الحدود. 


وبذلك نكون قد انتهينا من الحديث عن الدول الإسلامية التى قامت فى بلاد «السودان الغربى»، أما «السودان الأوسط».

المصدر
الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي
نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي

إمبراطورية مالي الإسلامية وسيرة أغنى سلطان في العالم السلطان منسا موسى

سلسلة ممالك إسلامية في القارة الإفريقية
إمبراطورية مالي الإسلامية وسيرة أغنى سلطان في العالم
السلطان منسا موسى
(الحلقة الثالثة)
569 - 874هـ = 1200 - 1469 م

أسس هذه السلطنة شعب زنجى أصيل هو شعب «الماندنجوه»، أو «الماندنجو» ومعناها «المتكلمون بلغة الماندى»، ويطلق «الفولانى» على هذا الشعب اسم «مالى»، ويلقبه المؤرخون العرب بلقب «مليل» أو «ملل»، وتقع سلطنة «مالى» بين بلاد «برنو» شرقًا والمحيط الأطلسى غربًا وجبال البربر شمالا و «فوتاجالون» جنوبًا.
وقد اشتهرت باسم بلاد «التكرور» وهى أحد أقاليمها الخمسة التي اشتملت عليها المملكة زمن قوتها وازدهارها، وكان كل إقليم منها عبارة عن مملكة مستقلة استقلالا ذاتيا، لكنها تخضع لسلطان «مالى»، وهذه الأقاليم الخمسة حسبما ذكرها «القلقشندى»:
1 - «مالى»، ويتوسط أقاليم المملكة.
2 - «صوصو»، ويقع إلى الجنوب من «مالى».
3 - «غانة»، ويقع شمال «مالى» ويمتد إلى «المحيط الأطلسى».
4 - «كوكو»، ويقع شرق إقليم «مالى».
5 - «تكرور»، ويقع غرب «مالى» حول «نهر السنغال».

ولايعرف إلا القليل عن نشأة مملكة «مالى» ويتلخص فى أنه فى نحو منتصف القرن الحادى عشر الميلادى تقريبًا اعتنق ملوك «الماندنجو» فى «كانجابا» (مالى) الإسلام، وأنشئوا دُوَيلة صغيرة انفصلت عن مملكة «غانة»، وظفرت بنوع من الاستقلال الذاتى، مستغلة الصراع الذى نشب بين المرابطين ومملكة «غانة» واستطاع ملوك «كانجابا» أن يوسعوا مملكتهم فى أوائل القرن الثالث عشر فى اتجاه الجنوب 
والجنوب الشرقى، مما أثار حفيظة ملك «الصوصو»، الذى أخذ يعمل للسيطرة على مملكة «كانجابا» الناشئة وكادت جهوده تكلل بالنجاح، بعد أن استطاع القضاء على دولة «غانة» الإسلامية عام (600هـ = 1203م)، لكن «سندياتا» ملك «كانجابا» الذى اشتهر باسم «مارى جاطة» (627 - 653هـ = 1230 - 1255م) استطاع أن يقهر ملك «الصوصو»، وأن يقتله فى إحدى المعارك عام (632هـ = 1235م) وأن يضم بلاده إليه، ثم وسَّع نفوذه شمالا واستولى على البقية الباقية من مملكة «غانة» عام (638هـ= 1240م)، وبذلك يعتبر هذا الملك المؤسس الحقيقى لسلطنة «مالى» الإسلامية.

وقد برزت سلطنة «مالى» فى سماء الحياة السياسية فى غربى إفريقيا كأعظم ماتكون، واتخذت حاضرة جديدة لها، ترمز إلى الدولة وإلى نفوذها وقوتها النامية وهى عاصمتها الجديدة «نيانى» أو «مالى»، بدلا من عاصمتها القديمة «جارب»، وتقع العاصمة الجديدة على أحد روافد «نهر النيجر».


استمرت حركة التوسُّع بعد ذلك، ففى عهد «منسى ولى» (653 - 669هـ = 1255 - 1270م) خليفة «مارى جاطة» استولى قواده على منطقة «وانجارة» الغنية بمناجم الذهب، كما استولوا على مدينتى «بامبوك» و «بندو»، ولم تتوقَّف الفتوح بعد «منسى ولى»، إنما استمرت فى عهد خلفائه - أيضًا - حتى وصلت الغاية فى عهد ملك «مالى» الشهير «منسا موسى» (712 - 738هـ = 1312 - 1337م) الذي استولت قواته على مدن «ولاته» و «تمبكت» و «جاو» فى «النيجر الأوسط»، وبلغت دولة «مالى» الإسلامية فى عهده ذروة مجدها وقوتها واتساعها، فقد امتدت من بلاد «التكرور» غربًا عند شاطئ «المحيط الأطلسى» إلى منطقة «دندى» ومناجم النحاس فى «تكدة» شرقى «النيجر»، ومن مناجم الملح فى «تغازة» فى الصحراء شمالا إلى «فوتاجالون» ومناجم الذهب فى «نقارة» جنوبًا، كما شملت الحدود الجنوبية منطقة الغابات الاستوائية.


وتقدر مساحة «مالى» زمن السلطان «منسا موسى» بمساحة كل دول غربى أوربا مجتمعة، وتعتبر «مالى» من أعظم الإمبراطوريات في القرن الرابع عشر الميلادى، وفاقت شهرتها دولة «غانة»؛ من حيث العظمة والقوة والثروة والاتساع والشهرة، فقد ضمَّت داخل حدودها مناجم الذهب والملح والنحاس، وتحكَّمت فى طرق القوافل بين هذه المناجم شمالا وجنوبًا، ونتج عن ذلك ثراء جم، يظهر ذلك من وصف «ابن بطوطة» و«الحسن الوزَّان» لهذه المملكة.


لكن ما كادت الدولة تبلغ الغاية فى القوة حتى بدت عليها مظاهر الضعف؛ فأَغرق الملوك فى الترف، وفقدوا الروح العسكرية، وبدأت أقاليمها تستقل عنها واحدًا بعد الآخر؛ فاستقلَّت «جاو» واستولى «الطوارق» على «أروان» و «ولاته» و «تمبكت»، وبدأ «الولوف» و«التكرور» يُغيرون عليها من الغرب، ودولة «الكانم» من الشرق واستقلّت إمارة «صنغى» التى ورثت مملكة «مالى» وتبوأت مكانتها فى غرب القارة فيما بعد.


وقد بلغ ضعف مملكة «مالى» الغاية فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين حين استنجدوا فى عام (886هـ = 1481م) بالعثمانيين، الذين كانوا قد استقروا بالمغرب، ثم بالبرتغاليين الذين كانوا قد أنشئوا لهم مستعمرة على ساحل إفريقيا الغربى، فلم يستجب لهم أحد، وكان «سُنِّى على» سلطان دولة «صنغى» الإسلامية والمؤسس الحقيقى لها قد أوغل فى سلطنة «مالى» فلم يترك بلدًا ولا مدينة فى النصف الشمالى منها إلا حاربه بما فى ذلك مدينة «مالى» نفسها، واحتل «تمبكت» عام (873هـ = 1469م)، ونرى عهد قوة إمبراطورية «مالى» ينتهى فى العام الذى سقطت فيه «تمبكت» فقد أخذت الإمبراطورية تفقد أقاليمها واحدًا إثر الآخر حتى أصبحت فى منتصف القرن السابع عشر الميلادى مجرد دُوَيلة صغيرة 
فى «كانجابا» كما كانت من قبل. وظلَّت هذه الدولة قائمة حتى ابتلعها الفرنسيون فى عام (1316هـ = 1898م)، بعد أن هزموا آخر زعيم أراد أن يعيد مجد دولة «مالى» الإسلامية، ويوحد شعب «الماندنجو» وهو «سامورى التورى»، ورغم جهاده المستمر فإن الفرنسيين قضوا عليه فى العام نفسه، ونفوه إلى «جابون»؛ حيث مات هناك فى عام (1318هـ = 1900م).

وقد استطاعت دولة مالى تحقيق كثير من المظاهر الإسلامية. 


وأول هذه المظاهر، اتصالها بالقوى الإسلامية المختلفة، وإظهارها لروح الأخوة الإسلامية، وقد ظهر هذا فى سفر سلاطين هذه المملكة إلى مكة لأداء فريضة الحج وزيارة «مصر» فى طريقهم إلى «مكة»، وقد بدت هذه الظاهرة منذ فجر الدولة؛ إذ أشار «القلقشندى» إلى خروج «منساولى بن مارى جاطة» إلى الحج فى عهد السلطان «بيبرس»، وتطورت الصلات بين «مالى» و «مصر» فى عهد السلطان «منسا موسى» الذى يعد موكبه من أروع مواكب الحج التى وفدت على «مصر» فى القرن الثامن الهجرى. 


وقد قدَّر بعض المؤرخين عدد من جاء فى ذلك الموكب بعدة آلاف، وقالوا إن السلطان حمل خمسين ألف أوقية من الذهب وزَّع أكثرها على الناس فى صورة هدايا أو صدقات فى «مصر» و «الحجاز»، وقد بعث إلى الخزانة السلطانية فى «القاهرة» بحمْل كبير من الذهب، وقد أكرمه سلطان «مصر» وبعث إليه بالخِلع وزوَّده بما يحتاج إليه فى سفره إلى «مكة» من الجمال والمتاع والمئونة.


وكان السلطان «منسا موسى» قد بعث قبل مجيئه إلى «مصر» كتابًا إلى السلطان المملوكى «الناصر محمد» خاطبه فيه بما يدل على التقدير والإخاء، وبعث إليه بخمسة آلاف مثقال من الذهب، مما يدل على عمق الصلات الطيبة وروح الأخوة الإسلامية بين القاهرة وغربى إفريقيا، تلك الصلات التى نشأت عنها علاقات ثقافية وتجارية واسعة وقد انتهز السلطان «منسا موسى» فرصة وجوده فى «مصر»، فابتاع جملة من الكتب الدينية ليوفر لأهل بلاده طرفًا من الثقافة الإسلامية المتفوقة فى «مصر» وقتئذٍ وتبع ذلك رحيل كثير من علماء «مصر» إلى «مالى»، ورحيل علماء «مالى» إلى «مصر»؛ حيث كان لهم رواق فى الأزهر يقيمون فيه يسمى «رواق التكرور». 


ولم تقتصر العلاقات على «مصر» وحدها، بل كان لسلاطين «مالى» علاقات طيبة أيضًا بملوك «المغرب» وترجع العلاقات بين الطرفين إلى زمن بعيد، فيذكر «ابن عذارى» مؤرخ «المغرب» و«الأندلس» الشهير فى كتابه «البيان المغرب فى أخبار الأندلس والمغرب» بعض الهدايا التى كان يرسلها ملوك «السودان الغربى» فى القرنين الرابع والخامس الهجريين إلى ملوك «بنى زيرى» فى «تونس»، أما سلطان مملكة «مالى» «منسا موسى» فقد أرسل إلى السلطان «أبى الحسن المرينى» يهنئه باستيلائه على «تلمسان»، كما بعث بالسفراء الدائمين إلى مدينة «فاس»، وكانت العلاقات الثقافية مع «المغرب» فى غاية القوة والازدهار، بسبب انتشار مذهب «مالك» فى البلدين.


وقد امتدت علاقات مملكة «مالى» إلى «الأندلس»، بدليل ما يروى من أن «منسا موسى» استعان بأحد علمائها وهو «أبو إسحاق السهلى» من أهل «غرناطة» فى بناء القصور والمساجد، وإليه يرجع الفضل فى إدخال فن البناء بالآجر فى غربى «السودان»، وبنى مسجدًا عظيمًا فى «جاو» وآخر فى «تمبكت»، كما بنى قصر «منسا موسى» نفسه.


وكان أهل «مالى» يحتفلون بشهر رمضان وبالأعياد الإسلامية احتفالا كبيرًا، وكان السلطان يوزع الأموال والذهب على القضاة والخطباء والفقهاء وفقراء الناس، ويصف «ابن بطوطة» خروج السلطان لصلاة العيد وصفًا رائعًا لا يقل فخامة وأبهة عن خروج خلفاء «بغداد» و«القاهرة». ويقول إن الأهالى كانوا يواظبون على الصلاة في الجماعات، وإنهم كانوا يضربون أولادهم إذا ما قصروا فى أدائها، وإنه إذا لم يبكر الإنسان فى الذهاب إلى المسجد يوم الجمعة لم يجد مكانًا لكثرة الزحام.

وبلغ من عمق العقيدة فى نفوسهم أنهم كانوا يلزمون أبناءهم بحفظ القرآن الكريم، وكانوا يضعون قيودًا من الحديد فى أرجلهم إذا ماقصروا فى حفظه، ولا تفك عنهم حتى يحفظوه، ولذلك أتقن كثير من الماليين اللغة العربية، وكان السلطان «منسا موسى» نفسه يجيدها، وكان التعليم لايتم إلا بها كما كانت لغة الحكومة فكانت الوثائق المهمة والمراسلات الدولية لاتكتب إلا بها، كما كانت لغة التجارة والمعاملات، أى أنها كانت اللغة السائدة بجانب اللغات المحلية، مثل لغة «الهوسا» و«صنغى» و«الفولانيين» التى تأثرت باللغة العربية، وتوجد آلاف الكلمات العربية مستخدمة فى شتى مظاهر الحياة فى غرب إفريقيا حتى اليوم، وقد زار الرحالة الإنجليزى «فرانسيس مور» مالى عام (1144هـ = 1731م) ووجد معظم أهل «جمبيا» البريطانية يتكلمون العربية.
وقد ساعد على ذلك أن سلاطين «مالى» كانوا يكثرون من بناء المساجد التى كانت تتخذ بجانب العبادة مكانًا للعلم والتدريس، ويذكر أن السلطان «منسا موسى» كان يقيم مسجدًا فى كل مكان تدركه فيه صلاة الجمعة إذا كان مسافرًا أو خارج عاصمته، ومن أهم هذه المساجد مسجد أو جامع سنكرى الذى أصبح جامعة علمية فى مدينة «تمبكت»؛ حيث وفد إليه العلماء وطلاب العلم من داخل «مالى» وخارجها، وبلغ من أهمية هذه المساجد أنها أصبحت حرمًا آمنًا، فكان السلطان إذا غضب على أحد من الرعية استجار المغضوب عليه بالمسجد، وإن لم يتمكن من ذلك يستجير بدار خطيب المسجد، فلا يجد السلطان سبيلا إلا أن يعفو عنه، وهذا يدل على مدى تقدير سلاطين «مالى» للأماكن الدينية وللعلماء، وكان مجلس السلاطين لا ينعقد إلا بحضور العلماء ولا يبت فى رأى إلا بعد مشورتهم، فإذا أضفنا إلى ذلك ما قام به سلاطين «مالى» من جهاد لنشر الإسلام وثقافته بين القبائل الوثنية سواء داخل دولتهم أو خارجها، وما قاموا به من أصول عربية مشرقية لأسرتهم الحاكمة وهى أسرة «كيتا»؛ لأدركنا مدى حرص تلك السلطنة وهؤلاء السلاطين على التقاليد الإسلامية ومظاهر الحياة الإسلامية.
الاعضاء الذين شكروا صاحب المشاركة السيد محمد حسن

مملكة غانا الاسلامية

الإسلام والدول الإسلامية فى غرب إفريقيا
الملثميين ومملكة غانة الاسلامية
(الحلقة الثانية)

يقتضى الحديث عن الإسلام والدول الإسلامية التى قامت فى بلدان غربى إفريقيا، التى كانت تعرف ببلاد «السودان الغربى»؛ أن نبدأ بإعطاء نبذة عاجلة عن انتشاره أولا بين بربر الصحراء الكبرى، الذين كانوا يعرفون باسم «الطوارق» أو «الملثمين» أو «الصنهاجيين»، فهذه القبائل هى التى قامت بجهد كبير فى نشر الإسلام فى بلاد «السودان الغربى». 
وقد انتشر الإسلام فى البداية فى شمال إفريقيا؛ بحيث لم يأتِ القرن الثانى الهجرى حتى كانت «بلاد المغرب» قطرًا إسلاميا خالصًا وكانت الصحراء الكبرى تحد «بلاد المغرب» من ناحية الجنوب، ويسكنها قبائل «الطوارق» أو «الملثمين»، ويلى هذه الصحراء «بلاد السودان الغربى»، التى كانت بها دولة وثنية تعرف بدولة «غانة»، وهى من أقدم الدول التى ظهرت فى هذه البقعة النائية من إفريقيا، ولكى يصل الإسلام إلى غربى إفريقيا كان لابد أن ينتشر أولا بين قبائل «الطوارق»، ثم يتسرب من خلالهم إلى دولة «غانة» الوثنية، وقد بدأت المحاولات الأولى لنشر الإسلام بين ديار «الملثمين» فى ولاية «عقبة بن نافع الفهرى» الثانية (60 - 63هـ) فى عهد «بنى أمية»؛ إذ استطاع هذا القائد أن يتدفق بقواته إلى «المغرب الأقصى»، ثم هبط جنوبًا إلى «إقليم السوس الأدنى»، ثم واصل تقدمه حتى وصل إلى مدينة «ماسه» بالسوس الأقصى، وأشرف على مدينة«أغمات»، وتوغّل فى بلاد «الملثمين» (مسوفة ولمتونة وجدالة) حتى وصل إلى مدينة «تارودنت»، وتذكر بعض الروايات أنه وصل إلى بلاد «غانة» و«التكرور».

كان «عقبة» أول من دعا «الملثمين» إلى الإسلام كأول عربى مسلم يرتاد هذه الأقاصى، ولما جاء «موسى بن نصير» فاتح «الأندلس» أتمَّ ما بدأه «عقبة»، فقد وصل إلى مواطن «الملثمين»، ودعاهم إلى الإسلام وأنشأ مسجدًا فى مدينة «أغمات» التى غدت من أهم مراكز الإسلام وثقافته فى «المغرب الأقصى».


وعندما قامت «دولة الأدارسة» فى «المغرب الأقصى» (172 - 373هـ = 788 - 983م) وحدوا بين السهول الساحلية وإقليم المراعى، كما وحدوا بين قبائل «صنهاجة» ووجهوا أنظارهم إلى نشر الإسلام فكانوا أشبه بالدعاة منهم بالولاة، فانتشر الإسلام فى إقليم «الواحات» بعد أن أصبحت مضارب «الملثمين» القريبة من جبال «أطلس» (تعرف بجبال درن) خاضعة للأدارسة وجزءًا من أملاكهم، وقد أدَّى إسلام قبائل «الملثمين» فى القرن الثالث الهجرى، إلى قيام حلف قوى جمع بين قبائل «صنهاجة» (لمتونة وجدالة ومسوفة) بزعامة «لمتونة»، وكان هذا الحلف يشير إلى موجة من التوسع صوب الجنوب؛ لنشر الإسلام بين القبائل الزنجية بالسودان الغربى. 


فقد استطاع «تيولوتان» زعيم هذا الحلف أن يحمل راية الجهاد، ودان له معظم ملوك «السودان الغربى»، واستولى على مدينة «أودغشت»، التى كانت محطة رئيسية لقوافل الصحراء، واتخذها عاصمة له بعد أن خلصها من يد ملك «غانة» الوثنى.


تُوفِّى «تيولوتان» عام (222هـ= 836م) وتفرق الحلف الصنهاجى أثناء حكم أحفاده عام (306هـ= 918م) واستطاعت مملكة «غانة» أن تستعيد مدينة «أودغشت»، واحتفظت تلك المملكة بقوتها كأعظم ما تكون فى «السودان الغربى»، حتى قام الحلف الصنهاجى الثانى عام (426هـ = 1035م) بزعامة الأمير «أبى عبدالله بن يتفاوت اللمتونى»، الذى استأنف الجهاد وحارب «غانة» وقبائل من «السودان»، لكنه استشهد فى موقعة «غارة» بالقرب من مدينة «تاتكلاتين» عام (429هـ= 1038م) بعد ثلاث سنوات من حكمه، وبذلك أخفق «الملثمون» فى استعادة «أودغشت» والسيطرة عليها مرة أخرى.


وكان من نتيجة هذه الهزيمة أن تخلَّتْ «لمتونة» عن زعامة «الملثمين» وخلفتها فى الزعامة قبيلة «جدالة» فى شخص «يحيى بن إبراهيم الجدالى» الذى اتبع طريقة أسلافه فى الجهاد داخل بلاد «السودان الغربى» لنشر الإسلام، وأسس دولته على دعوة دينية إصلاحية رائدها فقيه مغربى مالكى يدعى «عبدالله بن ياسين» فامتد بذلك 
نفوذ المذهب المالكى من «القيروان» إلى «المغرب الأقصى» ثم تخطى حدود هذا الإقليم نحو الجنوب وانتشر فى بلاد «السودان الغربى».

وبعد موت الأمير «يحيى بن إبراهيم» أصبح «عبدالله بن ياسين» بلا معين، وفقد الحماية التى كان يبسطها عليه زعيم «جدالة» ورئيس الحلف الصنهاجى، وأصبح وجوده غير مرغوب فيه، لتشدده فى تنفيذ التعاليم الإسلامية، ولاختياره «يحيى بن عمر اللمتونى» خلفًا ليحيى بن إبراهيم الجدالى، فنقل الزعامة بذلك من «جدالة» إلى 
«لمتونة». 

لهذا كله رحل «ابن ياسين» إلى بلاد «السودان الغربى» وأقام رباطًا أو رابطة هناك فى أحد الأودية على حافة الصحراء الجنوبية قرب مضارب «لمتونة»، ناحية مصب «نهر السنغال» وتبعه كثير من الذين آمنوا بدعوته، ولما ازدادت قوته قام يجاهد قبائل البربر ويدعوهم إلى تنفيذ تعاليم الإسلام الحقَّة ومعه «يحيى بن عمر» وأخوه «أبو 
بكر بن عمر اللمتونى»، لكن «يحيى» استشهد عام (448هـ = 1056م)، فأخذ «ابن ياسين» البيعة لأخيه «أبى بكر» وأقامه مكانه، وتوجَّه لقتال «برغواطة» عام (451هـ = 1059م) حيث استشهد «ابن ياسين» من جراح أصابته.

وبعد أن فرغ «أبو بكر» من السيطرة على قبائل «الملثمين» وأعاد الأمن إلى الصحراء رأى أن يوجه جهوده لمحاربة الوثنيين فى بلاد انتهى هذا الدور بانتشار الإسلام فى بلاد «السودان الغربى» على نطاق واسع، وبتوطُّن الثقافة العربية فى مركزين مشهورين فى «تمبكت» و «جنى»، وبسقوط مملكة «غانة» الإسلامية على يد «الصوصو»، وورثتها مملكة «مالى» الناشئة، وبدأ دور جديد يمكن أن نسميه دور الازدهار فى تاريخ الدول والممالك الإسلامية التى قامت فى غرب إفريقيا فى العصور الوسطى.


وفى هذا الدور انتقلت السلطة إلى أهل البلاد الأصليين الذين دخلوا الإسلام وتشربوا من ثقافته واقتبسوا من نظمه، وهو التطور نفسه الذى حدث فى «المغرب» حينما انتقل السلطان إلى أهل البلاد أنفسهم، بل شهده كل قطر دخله الإسلام وتغلغل فيه.

ومن الدول الإسلامية التى قامت من أهل البلاد الأصليين فى غربى إفريقيا دولة «مالى» ودولة «صنغى» ودولة «الكانم والبرنو». 
وهذه الدول بعد قيامها كانت تشتغل بالحياة الإسلامية وتتخذ مظهرًا إسلاميا واضح المعالم «السودان الغربى». 

وكان «ابن ياسين» قد انتزع مدينة «أودغشت» من ملك «غانة» بل وجاوزها إلى ناحية الجنوب فاتخذها الأمير «أبو بكر» مرتكزًا له فى جهاده ضد ملك «غانة»، وبعد جهاد دام أكثر من خمس عشرة سنة استولى «أبو بكر» على القسم الأكبر من مملكة «غانة» وضمه إلى دولته.


ثم رحل هذا الأمير بعد ذلك إلى الشمال فى عام (464هـ = 1072م) قاصدًا «مرَّاكش» التى كان قد بناها عام (454هـ = 1062م)، وتم الصلح بينه وبين ابن عمه «يوسف بن تاشفين» على أساس أن يترك «أبو بكر» لابن تاشفين بلاد «المغرب الأقصى»، وأن يعود هو إلى الصحراء مؤثرًا وحدة الصف، متجنبًا سفك الدماء، وكرس كل جهوده للتوسع فى بلاد «السودان» ونشر الإسلام بين قبائله، وكان هدفه هذه المرة هو إسقاط إمبراطورية «غانة» الوثنية التى أصبحت دولة «غانة» الإسلامية فيما بعد. 


دولة غانة الإسلامية [469 - 600 هـ = 1076 - 1203م]:

«غانة» التى نقصدها بهذا الحديث ليست هى «غانا» التى تقع اليوم فى أقصى الجنوب من غرب إفريقيا وعاصمتها «أكرا» وإنما هى التى تقع بين منحنى «النيجر» و «نهر السنغال»، وتضرب حدودها فى جنوبى «موريتانيا» الحالية، وكانت عاصمتها مدينة تُسمَّى «كومبى» وتقع على بعد (200) ميل شمال «باماكو» عاصمة دولة «مالى» الحالية.

وكانت غانة القديمة متسعة النفوذ والسلطان حتى قيل عنها: إنها كانت إمبراطورية خضع لها معظم بلاد «السودان الغربى» فى النصف الأول من العصور الوسطى. وتعد هذه الدولة أو الإمبراطورية من أقدم ممالك غربى إفريقيا شمال نطاق الغابات، ويرجع تاريخ نشأتها إلى الفترة مابين القرن الثالث والرابع الميلاديين، ويبدو أن كلمة «غانة»
كانت لقبًا يطلق على ملوكهم، ثم اتَّسع مدلول هذا الاسم حتى أصبح يطلق على العاصمة والإمبراطورية. 

وقد قامت هذه الدولة على يد جماعة من البيض وفدوا من الشمال، وكان أول ملوكهم المدعو «كازا» قد اتَّخذ مدينة «أوكار» قرب «تمبكت» الحالية عاصمة له، وكان الشعب يتكون من قبائل «السوننك»، وهى أحد فروع شعب «الماندى» الذى يسكن معظم نواحى غرب إفريقيا. 


واستطاعت هذه الدولة منذ أواخر القرن الثامن الميلادى، وبعد أن انتقل الحكم إلى فرع «السوننكى» - أن تُخضِع بلاد «فوتا» حيث التكرور والولوف والسرير، ووصل هذا التوسع إلى نهايته القصوى فى مستهل القرن الحادى عشر للميلاد، فأصبحت «غانة» تسيطر على المسافات الممتدة من أعالى «نهر السنغال» وأعالى «نهر النيجر»، وامتد نفوذها إلى موقع «تمبكت» شرقًا وبلاد «التكرور» أو «السنغال» غربًا، وينابيع نهر «النيجر» جنوبًا، وأغلب الصحراء الغربية (موريتانيا حاليا) شمالا، وانتقلت عاصمتها إلى مدينة «كومبى» أو «كومبى صالح» وهى نفسها مدينة «غانة».


وقد اعتمدت إمبراطورية «غانة» على التجارة كمصدر رئيسى فى اقتصادها خاصة تجارة الذهب، حتى صارت تعرف ببلاد الذهب، وأصبح ملوك «غانة» من أغنى ملوك الأرض؛ بفضل سيطرتهم على الطرق المؤدية إلى مناجم الذهب والتى كانت تقع فى منطقة «وانقارة» أو «وانجارة» جنوبى مملكة «غانة».


وقد أدَّى رواج التجارة إلى أن أصبحت «غانة» (العاصمة «كومبى صالح») أكبر أسواق بلاد «السودان»، ودخل الإسلام إليها سلميا عن طريق التجار والدعاة المسلمين، ويتبين هذا من رواية «البكرى» الذى زار هذه البلاد فى عام (460هـ = 1068م)، وذكر أن مدينة «غانة» مدينتان يحيطهما سور، إحداهما للمسلمين وبها اثنا عشر مسجدًا، يُعيَّن لها الأئمة والمؤذِّنون، والقضاة، أما المدينة الأخرى، فهى مدينة الملك وتسمى بالغابة، وبها قصر الملك ومسجد يصلى فيه من يَفدُ عليه من المسلمين. ويضيف «البكرى» أن مترجمى الملك وصاحب بيت ماله وأكثر وزرائه كانوا من المسلمين، وهذا يدل على أن الإسلام قد انتشر بين زنوج غربى إفريقيا لدرجة أن شعب «التكرور» بأكمله أسلم على يد الملك «وارجابى بن رابيس» الذى توفى عام (432هـ = 1040م)، كذلك امتد الإسلام إلى مدينة «سلى» التى تقع بين 
«التكرور» و «غانة»، وإلى مدينة «غيارو» التى تبعد عن مدينة «غانة» مسيرة (18) يومًا. 

ويتحدث «البكرى» عن مملكة أخرى هى مملكة «ملل» ويقصد بها مملكة «مالى» التى تقع جنوبى مملكة «غانة»، ويقول: إن ملكها يعرف بالمسلمانى لأنه أعلن إسلامه على يد أحد الفقهاء المسلمين الذى خرج معه للاستسقاء بعد أن أجدبت البلاد وكاد الناس يهلكون، ولما استجاب الله وهطل المطر أمر الملك بتحطيم الدكاكير (أى الأصنام)، وأخرج السحرة من بلاده، وأسلم هو وأهله وخاصته وحَسُنَ إسلامهم، على الرغم من أن أغلب أهل مملكته كانوا وثنيين.


ويتحدث «البكرى» أيضًا عن مدن أخرى أهلها مسلمون مثل مدينة «كونمة» ومدينة «الوكن» ومدينة «كوكو» عند انحناءة «نهر النيجر» تجاه بلاد «الهوسا»، والمدينة الأخيرة مدينتان، مدينة الملك ومدينة المسلمين، ويبدو أن ملكهم كان مسلمًا، بدليل ما يذكره «البكرى» من أن ملكهم كان يتسلَّم عند تنصيبه خاتمًا وسيفًا ومصحفًا، يزعمون أن أمير المؤمنين بعثها إليه. ويصرح «البكرى» فى نهاية حديثه بأن ملكهم مسلم ولا يتولى العرش أحد من غير المسلمين.


وحتى يسير الإسلام فى مجراه الطبيعى ويستقر بين هذه الشعوب التى آمنت به، وحتى ينتهى دور «غانة» فى مناهضة الإسلام والاعتداء على القبائل المسلمة كان الهدف الأساسى الذى كرَّس له الأمير «أبو بكر بن عمر اللمتونى» زعيم «الملثمين» جهوده هو الاستيلاء على «غانة» وإخضاعها لدولة المرابطين التى أقامها هؤلاء «الملثمون» من قبائل صنهاجة.


وعلى الرغم من أن أغلب المصادر تغفل تفاصيل جهاد هذا الأمير فى بلاد «السودان الغربى» فإننا نعرف أنه استطاع أن يفتح مملكة «غانة»، وأن يستولى على العاصمة عام (469هـ = 1076م) ويسقط الحكومة الغانية الوثنية. ومنذ ذلك الوقت يمكن أن يؤرخ لإمبراطورية «غانة» الإسلامية حتى اختفائها من التاريخ فى مطلع القرن الثالث 
عشر الميلادى. فقد أضحت حكومتها إسلامية، ويقال إن ملكها اعتنق الإسلام بدليل أن المرابطين تركوه فى الحكم بعد أن أعلن الخضوع ودفع الخراج لهم. وبإسلام هذا الملك دخل عدد كبير من سكان المملكة فى الإسلام.

ولم تستمر سيطرة المرابطين على «غانة»؛ إذ سرعان ما تخلَّصت من هذه السيادة على أثر اغتيال الأمير «أبى بكر» أمير المرابطين عام (480هـ = 1087م) على يد أتباع أحد زعماء قبائل «الموسى» بجنوب «داهومى» وانتهزت بلاد «السودان الغربى» هذه الفرصة وما تبعها من اضطراب الجيوش المرابطية هناك بعد موت قائدها فأعلنت «غانة» استقلالها وانفصالها عن الدولة المرابطية، ونقضت تبعيتها لها، وفى الوقت نفسه استطاعت بعض الولايات التى كانت تابعة لإمبراطورية «غانة» أن تنفصل هى الأخرى وتستقل فى حكمها، مثل مملكة «أنبارة» وولاية «ديارا» و «كانياجا»، وأصبحت ممالك مستقلة، بينما أصبحت سلطة ملوك «غانة» لا تتعدَّى «أوكار» و «باسيكورو» مما أضعف الدولة ومهد للقضاء عليها.


ومعنى ذلك أن فتح المرابطين لغانة لم يقض عليها تاريخيا، ولكنه حولها إلى الإسلام، وجاءت الصدمة القاضية على الوجود التاريخى لإمبراطورية «غانة» على يد قبائل «الصوصو» الوثنية التى استقلت بولاية «كانياجا» كما سبق القول، وكانوا من قبل يدفعون الجزية لحكومة «غانة» لفترة طويلة. وفى مطلع القرن الثالث عشر الميلادى 
استولى أعظم أباطرة «الصوصو» وهو «سومانجورو» على العاصمة «كومبى صالح» فى عام (600هـ= 1203م) بعد معركة طاحنة مع ملك «غانة» الإسلامية.
وبذلك أنهى «الصوصو» سيادة الملوك الغانيين المسلمين فتفرقوا فى البلاد، وقام زعيم «الصوصو» بالاتجاه نحو الجنوب؛ حيث توجد دولة «الماندنجو» النامية فى «كانجابا» واستولى عليها ولكن أحد أبناء ملك «كانجابا» ويسمى «سندياتا» أو (مارى جاطهـ) نجح فى استرداد الأراضى التى ضاعت من أبيه، بل واستطاع أن يقضى على «سومانجورو» نفسه وأن يضم جميع أملاك «الصوصو» إليه. وذلك بعد موقعة حربية فاصلة (632هـ = 1235م)، وفى عام (638هـ = 1240م) نجح «مارى جاطة» فى تدمير ما بقى من «كومبى صالح» عاصمة «غانة»، وكان ذلك هو الفصل الختامى فى اختفاء إمبراطورية «غانة» من مسرح التاريخ.

وعلى الرغم من أن «غانة» الإسلامية لم تعمَّر طويلا فإن أهلها وأغلبهم من «السوننك» اشتهروا بحماسهم للإسلام وبالدعوة إليه، حتى إن بعض العشائر السوننكية تكاد تختص بالعمل فى الدعوة إلى الإسلام، بل إن كلمة «سوننك» فى أعالى نهر «غمبيا» استخدمها «الماندنجو» الوثنيون مرادفة لكلمة «داعية»، مما يدل 
على الدور الكبير الذى نهض به «السوننك» فى نشر الإسلام.

ويبدو أن هذه الدفعة التى دفعها المرابطون للإسلام كانت من القوة بحيث تركت فى تاريخ الإسلام فى غربى إفريقيا آثارًا عميقة، ذلك أن دعاة المرابطين نشروا الإسلام فى المنطقة الواقعة بين «السنغال» و «النيجر» وعلى ضفاف «السنغال»، وتمخض ذلك عن إسلام شعب «التكرور» الذى عمل بدوره على متابعة الدعوة إلى هذا الدين الحنيف بين قبائل «الولوف» و «الفولبة» (الفولانى) و «المندنجو».


وفى ركاب المرابطين دخلت الثقافة الإسلامية متدفقة من مدارس «المغرب» و«الأندلس»، فقد وحَّد المرابطون بين «السودان الغربى» و«المغرب» و«الأندلس» فى دولة واحدة. وفى عهدهم تم تأسيس مدينة «تمبكت» التى أصبحت حاضرة الثقافة العربية فى غربى «السودان» وقد أسَّسها قوم من طوارق «مقشرن» فى آخر القرن الخامس الهجرى، وأصبحت سوقًا مهمة يؤمُّها الرحالة ويَفِدُ إليها التجار من «مَرَّاكُش» و «السودان». 


وسرعان ما اقتفى العلماء أثر التجار فوفدوا إليها من «المغرب الأقصى» و «الأندلس»، بل ومن «مصر» و «توات» و «تافللت» و «فاس» وغيرها، وأصبح مسجدها الجامع الذى يسمى مسجد «سنكرى» جامعة إسلامية زاهرة فى هذه البقعة النائية، وامتدَّ الإسلام إلى مدينة أخرى كان لها ما لتمبكت من أثر فى تاريخ الإسلام والثقافة العربية، وهى مدينة «جنى» التى أسلم أهلها آخر القرن الخامس الهجرى، وأمَّها الفقهاءُ والعلماءُ، كما انتشرت اللغة العربية بين كثير من أهالى دولة «غانة» الإسلامية، وأصبحت لغة العبادة والثقافة الوحيدة بالبلاد بجانب كونها لغة التجارة والمعاملات.

المسلمون في أفريقيا جنوبي الصحراء

سلسلة ممالك إسلامية في القارة الأفريقية
المسلمون في أفريقيا جنوبي الصحراء 
(الحلقة الاولي)
http://majles.alukah.net/t114778/

- الطرق التى سلكها الإسلام إلى قارة إفريقيا (جنوب الصحراء) كثيرة ومتعددة، منها:
طرق القوافل التجارية التى تربط بين شمالى القارة وبلاد السودان الغربى والأوسط (غرب إفريقيا)، ومنها الطريق الذى يبدأ من جنوبى «تونس» ويتجه إلى «بلاد الكانم والبرنو» فى حوض بحيرة «تشاد»، والطريق الذى يبدأ من جنوبى «الجزائر» ويتجه إلى «بلاد الهوسا» فى شمال «نيجيريا»، والطريق الذى يبدأ من جنوبى «مراكش» ويصل إلى مصب «نهر السنغال» ومنحنى «نهر النيجر» و «نيجيريا» و «تشاد».

وطريق بحرى يسير عبر مياه «البحر الأحمر» و «خليج عدن» و «المحيط الهندى»، ويربط هذا الطريق بين «شبه الجزيرة العربية» وشرق إفريقيا، ومنه دخل الإسلام إلى شرق القارة وخاصة إلى «إريتريا» و «الصومال» و «الحبشة» و «زنجبار» وساحل شرقى إفريقيا حتى مدينة «سوفالة» جنوب «نهر الزمبيزى» فى «موزمبيق».


وطريق وادى النيل وطريق درب الأربعين اللذان تدفق منهما الإسلام إلى «بلاد البجة» و «بلاد النوبة» وإلى «دار فور» وبقية «بلاد السودان الشرقى»، وهو «سودان وادى النيل» الذى يعرف الآن بجمهورية السودان.


ويلاحظ أن معظم هذه الطرق طرق تجارية، ولم تستخدم كمعابر للجيوش إلا فى القليل النادر، مما يؤكد سمة الطابع السلمى لانتشار الإسلام فى قارة إفريقيا. ومما يؤكد ذلك أيضًا أن أهل القارة أنفسهم سواء أكانوا من البربر أم من الزنج والسودان هم الذين قاموا بنشر الإسلام؛ بعد أن وصلت الدعوة إلى بلدانهم وإلى ما وراءها من بلدان، ولم تكن حركات الفتح والجهاد التى حفل بها تاريخ الإسلام فى القارة خلال بعض الفترات لاسيما فى عصر الخلفاء الراشدين والأمويين من بعدهم ذات أثر كبير فى نشر الإسلام؛ إذ لم يكن هدفها نشر هذا الدين بقوة السلاح كما يدعى كثير من


المستشرقين وأعداء الإسلام، وإنما كان هدفها هو إزاحة العقبة التى كانت تحول دون وصول الإسلام بالحكمة والموعظة إلى أهل إفريقيا، وكانت هذه العقبة تتمثل فى جيوش الاحتلال البيزنطى، التى كانت تحتل «مصر» والساحل الشمالى لإفريقيا كله قبل فتح الإسلام لهذه البلاد.


وبعد أن أنقذ المسلمون أهالى القارة من هذا الاحتلال البغيض، أصبح الطريق مفتوحًا أمام الدعوة، ومن ثم تلقفها الأفارقة بشغف وحب شديدين، واتخذت الدعوة إلى هؤلاء الأفارقة أشكالا متعددة وعلى يد أناس مختلفى الصفات والاتجاهات، منهم الدعاة الذين وهبوا حياتهم لهذا العمل العظيم، ومنهم التجار الذين جمعوا بين الدعوة والتجارة، ومنهم الحجاج الذين تأثروا بمظاهر الأخوة الإسلامية فى موسم الحج وأثَّروا فى إخوانهم وأهاليهم بعد أن عادوا من الحج مشحونين بشحنة دينية عميقة. 


ومنهم المهاجرون الذين أتوا فى هجرات عديدة شملت العرب وغيرهم، وحملوا معهم الإسلام والثقافة الإسلامية، ومنهم الصوفية الذين اخترقوا أعماق القارة ووصلوا إلى النجوع والكفور والقرى والغابات، وسوف نفصل الحديث عن هذه الوسائل التى انتشر الإسلام بها فى القارة الإفريقية.


(جنوب الصحراء):

1 - الدعاة:
ويقصد بالدعاة الأفراد المسلمون الذين تلقوا قدرًا من العلوم الدينية، وعلى رأسهم الفقهاء والعلماء والمشايخ والقراء والقضاة، وكان هؤلاء يسمون فى مختلف أنحاء القارة بأسماء مختلفة، مثل المرابط، وألفا، والمعلم، والفقيه، والشيخ، وسيدنا، ومولانا. وكانوا يحظون بنصيب كبير من الاحترام والتقدير، وكانت كل قرية فى إفريقيا تقيم دارًا لاستقبالهم واستضافتهم، وكان الحكام والملوك الأفارقة سواء أكانوا مسلمين أم وثنيين يعاملونهم باحترام كبير، وكانوا يتخذون منهم مستشارين ووزراء يصرِّفون لهم أمور الدولة، مثلما كان الحال فى دولة «غانة» الوثنية، كما يقول «البكرى» الذى عاش فى القرن العاشر الميلادى.

وكان هؤلاء الدعاة ينشئون الكتاتيب لتعليم الأطفال 
الوثنيين القراءة والكتابة وبعض العلوم الأخرى، ومن ثم يصبح هؤلاء الأطفال بذرة إسلامية داخل الأسر الوثنية، وكذلك كان الدعاة ينشئون المدارس التى كانت تعد مركزًا مهما لنشر الإسلام وثقافته، وكذلك المساجد والزوايا والأربطة والخلاوى التى كان يلتقى فيها الأفارقة بالدعاة ويتلقون عنهم العلوم الدينية؛ حيث يخرجون دعاة للإسلام بين أهليهم وأقاربهم من الوثنيين.

ولذلك انتشر الإسلام بين الأفارقة، خاصة بعد أن اعتنقه بعض ملوكهم الذين كانوا يتحولون تلقائيا إلى دعاة للإسلام فى بلادهم. 

ومن هؤلاء ملك «مالى» وملك «التكرور» وملك «سلى»، فقد نشر هؤلاء الإسلام بين شعوبهم من التكرور والسونتك والماندنجو وغيرهم من شعوب غرب القارة. وخرج من هذه الشعوب دعاة تخصصوا فى الدعوة إلى الإسلام حتى أصبحت كلمة تكرورى أوسوننكى تعنى داعية للإسلام عند شعوب هذه المنطقة.

ومن أهم الدعاة الذين نشروا الإسلام بين البربر فى «الصحراء الكبرى» والتكرور فى «السنغال» والسوننك فى «غانة»، الشيخ «عبدالله بن ياسين الجزولى» المتوفَّى عام (451هـ = 1059م)، والذى قامت على يديه «دولة المرابطين» الكبرى قبل ذلك ببضع سنين.


وهناك داعية آخر قام بنشاط كبير فى حوض «نهر النيجر الأعلى» هو «أبو القاسم على بن يخلف»، الذى أسلم على يديه ملك مالى الذى اتخذ لقب المسلمانى (أى الذى أسلم)، بعد إسلامه فى القرن الحادى عشر للميلاد، وفى بلاد «الهوسا» نجد داعية إسلاميا كبيرًا هو الشيخ «محمد عبدالكريم المغيلى» المتوفَّى عام (909هـ =
1503م) الذى نشر الإسلام فى بلاد «الهوسا»، ثم أتى بعده بعدة قرون داعية كبير من شعب الفولانى هو الشيخ «عثمان بن فودى» الذى أتم حركة نشر الإسلام فى هذه البلاد، وخاصة «نيجيريا» و «الكاميرون».
وإذا اتجهنا شرقًا ووصلنا إلى بلاد حوض «بحيرة تشاد» حيث «دولة الكانم والبرنو» نجد داعية إسلاميا عظيمًا هو الشيخ «محمد بن مانى» الذى أسلم على يديه ملوك هذه البلاد فى القرن الحادى عشر للميلاد.

وكذلك دخل الإسلام كثير من النوبيين وأهالى «السودان النيلى» و «دارفور» على يد دعاة وفدوا من «مصر» و «اليمن» و«الحجاز» من أمثال «غلام الله بن عائذ اليمنى»، و «حمد أبى دنانة» من «الحجاز»، والشيخ «محمد القناوى الأزهرى» من «مصر»، وتلقف الدعوة وأذاعها سودانيون من أمثال الشيخ «محمود العركى» والشيخ 
«صغيرون محمد بن سرحان العدوى» وغيرهم.

ووفد على منطقة القرن الإفريقى وساحل شرقى إفريقيا عدد كبير من الدعاة، من أمثال «ود بن هشام المخزومى» الذى أقبل إلى بلاد «الحبشة» فى عهد «عمر بن الخطاب» - رضى الله عنه – وأنشأ أحفاده دولة إسلامية فى «إقليم شوا» وسط هضبة الحبشة، كذلك وفد دعاة من «بنى عبدالدار» أو من «بنى عقيل بن أبى طالب» إلى بلاد «الزيلع» و «الصومال» و «إريتريا» وأنشأ أحفادهم سلطنة إسلامية أخرى فى هذه البلاد تسمى «سلطنة أوفات الإسلامية».


وهكذا كان للدعاة فضل كبير فى نشر الإسلام وثقافته، وفى إقامة سلطنات إسلامية فى كثير من نواحى القارة، كما سنرى ذلك فى حينه بالتفصيل فى هذا الجزء من السلسلة.

المصدر / الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي نقلا عن موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
أعده وكتبه / هاني الهواري
الاعضاء الذين شكروا صاحب المشاركة السيد محمد حسن

ملوك وسلاطين الممالك الإسلامية من سقوط غرناطة

موقف ملوك وسلاطين الممالك الإسلامية من سقوط غرناطة[عدل]

ملف:La Rend;.,;;فرنثيسكو براديا، القرن 19]] هذه المقالة متعلقه بأوضاع المسلمين عقب سقوط غرناطة. وفيها نحاول تسليط الضوء على موقف ملوك وأمراء المسلمين، سواء الذين عاصروا فترة حصار غرناطة، أو الذين شهدوا سقوطها في ما بعد.

موقف سلاطين بني مرين[عدل]

كان مسلمو الأندلس كلما اشتد بهم الأمر استنجدوا بملوك المغرب، لا سيما ملوك بني مرين الذين ساروا على نهج المرابطين، والموحدين الذين كانوا ينهضون للتدخل لحماية الأندلس كلما ضاق الأمر بأهلها.
فالسلطان المريني أبو يوسف المنصور (815 هـ/1286م) مثلا، عبر إلى الأندلس أربع مرات لإغاثة أهلها. ووصلت جيوشه إلى طليطلة، وقرطبة. بل إلى مدريد وهي قريبة من آخر معقل وصل إليه الإسلام في الأندلس. فساهم بذلك في إنقاذ غرناطة من الانهيار السريع أمام ضربات ملوك قشتالة وأرغون.
لكن رغم الجهود التي بذلها بنو مرين لحماية الأندلس، فإنهم لم يتمكنوا من تحقيق انتصارات ساحـقة، كتلك التي حققها المرابطون في معركة الزلاقة، والموحدون في معركة الأرك. والسبب في ذلك يرجع إلى أن المرينيين كانوا يقاتلون بإمكانياتهم الذاتية فقط، بينما كان المرابطون والموحدون يقاتلون بإمكانيات المغرب العربي كله.
ومهما يكن من أمر، فإن بني مرين ساهموا في دور فعال في حماية الأندلس قبل أن يدخلوا في دوامة من الفوضى والاضطراب، والحروب الداخلية ضد منافسيهم من جهة، وضد جيرانهم من جهة ثانية. بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية المزرية التي كان يمر بها المغرب في هذه الفترة من تاريخه على وجه الخصوص، والتي حالت دون تمكن المرينين، أوالوطاسيين من إنقاذ الأندلس، بل جعلتهم عاجزين حتى عن حماية سواحلهم من الاحتلال الإسباني والبرتغالي.
يقول المؤرخ الرحالة المصري عبد الباسط بن خليل الحنفي الذي زار شمال إفريقيا في مطلع القرن السادس عشر، وعاين أوضاع المغرب في هذه الفترة :«...ووقع بفاس وأعمالها خطوب، وحروب، وفتن، وأهوال، وفساد عظيم، وخراب بلاد، وهلاك عباد. وأخذت الفرنج في تلك الفترات عدة مدن من منابر العـدوة. مثل طنجة، وأصيلا وغير ذلك.. ولا زالت الفتن والشرور قائمة مستصحبة بتلك البلاد مدة سنين، بل إلى يومنا هذا...»
ومنذ أن كانت الحواضر الأندلسية تتهاوى أمام ضربات الإسبان ورسائل الاستغاثة تتوالى من أهل الأندلس على ملوك المغرب، لكن هؤلاء كانوا أعجز من أن يقوموا بتقديم عون جدي لمسلمي الأندلس.
يقول المؤرخ الأندلسي المجهول الذي عاصر مأساة غرناطة :«...إن إخواننا المسلمين من أهل عدوة المغرب بعثنا إليهم، فلم يأتنا أحد منهم، ولا عرج على نصرتنا وإغاثتنا، وعدونا قد بنى علينا وسكن، وهو يزداد قوة، ونحن نزداد ضعفا، والمدد يأتيه من بلاده، ونحن لا مـدد لـنا...»

موقف السلاطين الحفصيين[عدل]

وكما كان أهل الأندلس يستغيثون بملوك المغرب، فإنهم كانوا يلجئون إلى ملوك بني حفص. خصوصا عندما لا يجدون من ملوك المغرب أذانا صاغية. فمن ذلك أنه عندما سقطت بلنسية، أرسل أهلها إلى أبي زكريا الحفصي يستمدون منه النجدة والمدد. وجعلوا على رأس بعثتهم شاعرهم ابن الأبَّار القُضاعي الذي ألقى بين يديه قصيدته الشهيرة التي مطلعها :
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها قد درسا
ولم تكن بلنسية وحدها هي التي بايعت أبا زكريا الحفصي، وطلبت منه المدد. بل قد بايعه كذلك أهل إشبيلية، وأهل المريَّـة. إلا أن موقف أبي زكريا الحفصي من استنجاد أهل الأندلس لم يكن يتناسب مع خطورة الوضع. ذلك لأنه لم يكن يملك القوة الكافية التي تمكنه من إنقاذ الأندلس التي كانت ظروفها تقتضي اقتحام الحفصيين للأندلس، والقضاء على رؤوس الفتنة من ملوك الطوائف. وهو ما لم يكن يقدر عليه أبو زكريا الحفصي. ولذلك اكتفى بإرسال أسطول مشحون بالطعام والسلاح والمال. لكن هذا المدد لم يصل إلى المحصورين في بلنسية. كما أرسل بمدد آخر أثناء حصار إشبيلية، لكن المدد استولى عليه العدو، كما استولى على إشبيلية فيما بعد.
وأثناء حصار غرناطة، أو بعد سقوطها لم نجد فيما رجعنا إليه من المصادر ما يدل على أن أهل الأندلس استغاثوا بأمراء بني حفص. ولعل ذلك راجع إلى أن الدولة الحفصية كانت تعيش أخرىات أيامـها، ولم يكن بمقدور أمرائها أن يقدموا أي جهد جدي لدعم مسلمي الأندلس.
خصوصا إذا علمنا أن سواحل تونس نفسها لم تنج من الاحتلال الإسباني. أضف إلى ذلك أن الجيش الحفصي الذي كان ذات يوم يعتبر من أفضل جيوش شمال إفريقيا، قد تحلل وأصبح عاجزا عن مقاومة أي عدو. بل فقد سيطرته حتى على الأعراب الذين كانوا يعيثون فسادا في البوادي، وأطراف المدن، الأمر الذي جعل الملوك الحفصيين يستعينون بالمرتزقة من الجنود الإيطاليين والإسبان والزنوج وغيرهم.

موقف ملوك الدولة الزيانية[عدل]

لم تكن أحداث الأندلس بعيدة عن اهتمامات ملوك بني زيان. ذلك لأن أهل الأندلس كانوا يلجئون إلى الزيانيين مستنجدين بهم عندما تضيق بهم السبل. فمن ذلك أنه عندما ضيق الإسبان الخناق على غرناطة أستصرخ ملكها أبو عبد الله بأبي حمو الزياني، بقصيدة من نظم الشيخ الفقيه أبي البركات محمد بن أبي إبراهيم البلفيقي مطلعها :
هل من مجيب دعوة المستنجد أم من مجير للغريب المفرد
وبرسالة من إنشاء الوزير لسان ابن الخطيب يذكر فيها أنهم :"... لم يعانوا منذ أن فتحت الأندلس شـدة، وضيقا أشدّ مما هم عليه الآن. وذكر بأن ملك النصارى جمع لهم جيوشا من سائر الأمم النصرانية. وأنهم قاموا بإحراق الزروع. والمسلمون ليس لهم مغيث يلجأون إليه – بعد الله – سوى إخوانهم في الدين. وذكر بأنهم كانوا قد أعلموا المرينيين بهذا الخطر، وأنهم يقومون بما يقدرون عليه من دعم ومساندة. وأنهم لا يملكون غير أنفسهم، وقد بذلوها في سبيل الله. وهم ينتظرون نجدتكم ". فقام أبو حمو الزياني بإرسال الأحمال العديدة من الذهب والفضة، والخيل، والطعام. وبفضل هذا المدد أمكن لأهل غرناطة أن يثبتوا للدفاع عن مدينتهم فترة أطول.
وكما كانت أوضاع الحفصيين، والمرينيين، ثم الوطاسيين لا تؤهلهم للدفاع عن بلادهم، فضلا عن إنقاذ الأندلس، كانت المملكة الزيانية تعيش نفس الظروف المتدهورة. ولذلك تعذر على ملوكها تقديم أي دعم جدي لأهل غرناطة أو غيرها. وسوف يتبين لنا لاحقا أن المملكة الزيانية كانت أضعف من أن تساهم في إنقاذ الأندلس.

موقف سلاطين دولة المماليك في مصر[عدل]

في أواخر القرن الخامس عشر، أرسل مسلمو غرناطة إلى الملك الأشرف قايتباي (1468-1496) سلطان المماليك بمصر، يرجونه التدخل لإنقاذهم من ظلم ملوك المسيحيين. فاكتفى الأشرف بإرسال وفود إلى البابا، وإلى ملوك أوروبا يذكرهم بأن المسيحيين في دولته يتمتعون بكافة الحريات، بينما إخوته في الدين في مدن إسبانيا يتعرضون لشتى ألوان الاضطهاد. وهدد على لسان مبعوثيه بأنه سوف يتبع سياسة المعاملة بالمثــل، وهي التنكيل بالمسيحيين إذا لم يكفَّ ملوك إسبانيا عن اضطهاد المسـلمين. وطالب بعدم التعرض لهم، ورد ما أُخِذ من أراضيهم.
لكن الملك فرديناندو، والملكة إيزابيلا لم يريا في مطالب سلطان المماليك وتهديده ما يحملهما على تغيير خطتهما في الوقت الذي كانت فيه قواعد الأندلس تسقط تباعا في أيديهما. إلا أنهما بعثا إليه رسالة مجاملة ذكرا فيها : " أنهما لا يفرقان في المعاملة بين رعاياهما المسلمين، والنصارى. ولكنهما لا يستطيعان صبرا على ترك أرض الآباء والأجداد في يد الأجانب. وأن المسلمين إذا شاءوا الحياة في ظل حكمهما راضين مخلصين، فإنهم سوف يلقون منهما نفس ما يلقاه الرعايا الآخرون من الرعاية..".
لم يتمكن الباحثون من معرفة مصير هذه الرسالة، كما أنه لا يلاحظ في سياسة مصر المملوكية نحو الرعايا المسيحيين في مصر، أو في القدس ما يدل على أن السلطان المملوكي قد نفذ تهديده.
ويبدو أن السلطان قايتباي لم يتمكن من إغاثة مسلمي الأندلس بسبب انشغاله بتحركات بايزيد ورد غاراته المتكررة على الحدود الشمالية. بالإضافة إلى الاضطرابات الداخلية التي كانت تثور هنا وهناك. ومن ثم فإن الجهود المصرية وقفت عند الاكتفاء بالجهود الديبلوماسية. وتركت الأندلس تواجه قدرها بنفسها.
كرر الأندلسيون استغاثتهم بالملك الأشرف قانصو الغوري (1501-1516) سلطان مماليك مصر والشام. داعين إياه أن يتوسط لدى الملكين الكاثوليكيين (فرديناندو وإيزابيلا) لاحترام معاهد الاستســلام، ووقف أعمال الاضطهاد ضدهم. فأرسل الغوري وفدا إلى الملكين يبين لهما أنه سوف يجبر النصارى المقيمين في بلاده على الدخول في الإسلام، إذا لم تراع الاتفاقات السابقة بينهما وبين المسلمين. لكن فقهاء المسلمين عارضوا معاملة الرعايا المسيحيين بالمثل، محتجين بأن الإسلام لا يكره أحدا على الدخول فيه) فأرسل إليه الملكان سفيرا أقنعه بأن المسلمين يعاملون معاملة حسنة. وأن لهم نفس الحقوق التي يتمتع بها الإسبان.
وهكذا خابت آمال المسلمين الأندلسيين في تلقي أي دعم أو مدد من سلطان المماليك قانصو الغوري الذي يبدو أنه كان مشغولا هو الآخر حروبه مع العثمانيين، إضافته إلى كونه لا يملك أسطولا قويا يمكنه من مواجهة الإسبان أقعدته عن إغاثة الأندلسيين.

موقف السلطان محمد الفاتح[عدل]

أرسل أهل غرناطة في منتصف سنة 1477 - أي قبل سقوط غرناطة بأربعة عشر عاما – سفارة على إستانبول، وجهوا فيه نظر السلطان محمد الفاتح إلى تدهور أوضاع المسلمين في الأندلس، وناشدوه التدخل لإنقاذهم. لكن كان في حكم المستحيل أن يستجيب السلطان الفاتح لهذه الاستغاثة، لأنه كان هو الآخر مضطرا إلى مواجهة تحالف صليبي ضم البابا سكست الرابع TX. Sixte (1471-1484)، وجنوة، ونابولي، والمجر، وترانسلفانيا، وفرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس، وعددا من الزعماء الألبان الذين كانوا يضمرون عداء شديدا للدولة العثمانية.

موقف السلطان بايزيد الثاني (21)[عدل]

ثم استنجد الأندلسيون مرة أخرى بعد وفاة الفاتح بابنه السلطان بايزيد الثاني (1480-1511)، إلا أن السلطان بايزيد كانت قد تزاحمت عليها أزمات داخلية وخارجية كثيرة منعته من إغاثة مسلمي الأندلس منها : صراعه مع أخيه جم (1481-1495)، وحربه مع المماليك في أدنة سنة 1485-1491، بالإضافة إلى الحرب مع ترانسلفانيا، والمجر، والبندقية. ثم تكوين تحالف صليبي آخر ضد الدولة العثمانية من طرف البابا يوليوس الثاني، وجمهورية البندقية، والمجر، وفرنسا. وما أسفر عن هذا التحالف من حرب أدت إلى تنازل العثمانيين عن بعض ممتلكاتهم. وانتهى حكم السلطان بايزيد بصراع بين أبنائه، أضفى إلى تنحيته عن العرش، ثم موته في ظروف مشبوهة.
لكن رغم الظروف الصعبة التي كانت تعيشها الدولة العثمانية في هذه الفترة الحرجة من تاريخها، فإن السلطان بايزيد لم يهمل استغاثة أهل الأندلس، بل حاول أن يقدم لهم ما يستطيعه من أوجه الدعم والمساندة.فأرسل إلى البابا رسولا يعلمه بأنه سوف يعامل المسيحيين في إستانبول، وسائر مملكته بنفس المعاملة إذا أصر ملك قشتالة على الاستمرار في محاصرة المسلمين في غرناطة ،والتضييق عليهم. وبالفعل أرسل أسطولا بحريا بقيادة كمال رئيس إلى الشواطئ الإسبانية سنة 1486. فقام هذا الأخير بإحراق وتخريب السواحل الإسبانية والإيطالية ومالطا ونقل أولى قوافل المهاجرين المسلمين واليهود إلى تركيا. وحسب رواية أخرى- لم نتمكن من التأكد من صحتها - فإن السلطان الحفصي عبد المؤمن بعد نجاح وساطته في عقد صلح بين الدولة العثمانية ودولة المماليك، تم عقد اتفاق آخر على تحالف بين الحفصيين والعثمانيين والمماليك لدعم مسلمي الأندلس. وكان الاتفاق يقضي بأن يرسل العثمانيون أسطولا إلى سواحل إيطاليا تكون مهمته إلهاء الإسبان ؛ بينما يستغل الفرصة ويقوم المماليك بإرسال قوات تنطلق من شمال إفريقيا إلى الأندلس لنجدة المسلمين هناك.
وهكذا بسبب المشاكل الداخلية والخارجية التي كانت تعيشها الدولة العثمانية، لم يتمكن العثمانيون في عصر بايزيد، وقبل ذلك في عصر الفاتح من إغاثة مسلمي الأندلس، كما أن التهديدات، والغارات التي شنها كمال رئيس على السواحل الإسبانية لم تثن الملكين الإسبانيين عن قرار إنهاء الوجود الإسلامي من إسبانيا المسيحية. وبهذه المواقف التي رأيناها يتضح لنا أن سقوط غرناطة وضياع الفردوس المفقود ارتبط بعدد من الأسباب التي كان يمر بها العالم الإسلامي وقتها. وضياع غرناطة، وما تبعه من طرد المسلمين كان نتيجة متوقعة في ضوء الأحداث التي مرت بها الأمة.

وثيقة إنجليزية تكشف كيفية سقوط غرناطة[عدل]

كشف الدكتور خوسيه غوميث سولينيو في المؤتمر الثامن عشر للغة والأدب والمجتمع الأسباني الذي اختتم أخيرا في مدينة مالقة، جنوب إسبانيا، عن عثوره على وثيقة إنجليزية تؤكد ان سقوط غرناطة الإسلامية والحصار الذي عانت منه المدينة «كان أكثر شراسة مما هو معروف حتى الآن». ومدى الترف والابهة التي تميزت بها القصور الغرناطية والبلاط الملكي، واثر الحصار الذي فرضته القوات الأسبانية على اهالي مدينة غرناطة، حتى اضطرهم إلى أكل الكلاب والقطط، ويخلص إلى ان العرب دفعوا ثمنا باهظا للغاية بسقوط آخر جوهرة لهم في أوروبا.
ويذكر المؤلف ان عدد القوات التي حاصرت غرناطة كان أكبر بكثير من عدد القوات الغرناطية، مخالفا بذلك الرواية المتواترة من أن جيش غرناطة كان كبيرا، وتضيف الوثيقة ان «اهالي غرناطة مروا بمعاناة قاسية خلال اعوام الحصار، وقامت القوات الأسبانية بتحطيم وحرق الحقول المجاورة للمدينة، ما تسبب في مجاعة رهيبة بين سكان غرناطة، ولهذا السبب اكلوا الخيول والكلاب والقطط».
وتتعرض الوثيقة أيضا للكنوز الهائلة التي حصل عليها الأسبان بعد الفتح «ففي مسجد غرناطة كان هناك 300 مصباح من الذهب والفضة.. وعثر ملك إسبانيا على كميات هائلة من الذهب وبها بنى الكنيسة مكان المسجد».
ويذكر المؤلف الإنجليزي ان «الملك فرناندو لم يسمح للمسلمين الا بما يستطيع كل واحد منهم ان يحمله على ظهره من حاجات، ما عدا الذهب والفضة والسلاح»، ولهذا فان الجيش الأسباني وجد عند دخوله المدينة الآلاف من الأسلحة من سيوف ودروع ومناجيق.
ويشير الدكتور غوميث سولينيو إلى ان الوثيقة تذكر ان افتتاح غرناطة تم عام 1491، والصحيح هو 1492، والسبب هو ان السنة الجديدة لدى الإنجليز كان تبدأ في 25 مارس (آذار) وليس الأول من شهر يناير (كانون الثاني).
ويختتم الدكتور غوميث سولينيو بحثه حول تبعات سقوط غرناطة فيقول ان انهيار الحكم العربي في هذه المدينة كان له صدى كبير وواسع جدا ليس فقط في إسبانيا وانما في كل أوروبا، فأقيمت الصلوات في العديد من المناطق.

المصادر والمراجع[عدل]

  1. صلاح فضل، ملحمة المغازي الأندلسية
  2. المطوي، محمد العروسي، الحروب الصليبية في المشرق والمغرب
  3. عبد الباسط بن خليل الحنفي، الزهر الباسم
  4. المقري، أحمد بن أحمد، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
  5. المقري، أحمد بن أحمد، أزهار الرياض في أخبار عياض
  6. ابن خلدون، عبد الرحمن، العبر وديوان المبتدأ والخبر (المشهور بتاريخ ابن خلدون)
  7. نيقولا إيفانوف، الفتح العثماني للأقطار العربية (1516-1574)، ترجمة يوسف عطا الله
  8. ابن خلدون، أبو زكريا، بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد
  9. ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور
  10. التميمي، عبد الجليل، رسالة من مسلمي غرناطة إلى السلطان سليمان القانوني سنة 1551، المجلة التاريخية المغربية، تونس، العدد 3، (يناير 1975)
  11. عنان، محمد عبد الله، نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين
  12. حتاملة، مصير المسلمين الأندلسيين بعد سقوط غرناطة عام 1492، بحث ألقي في ندوة الأندلس التي نظمتها جامعة الأسكندرية بالتعاون مع رابطة الجامعات الإسلامية في (13-15 أبريل 1994).
  13. الشناوي، عبد العزيز، أوروبا في مطلع العصور الحديثة
  14. Özdemir,Mehmet ،Endülüs Müslümanları
  15. نشانجي محمد باشا، نشانجي تاريخي (بالتركية العثمانية)
  16. فريدون بك، مجموعة منشئات السلاطين (بالتركية العثمانية)
  17. الصديقي، محمد البكري، المنح الرحمانية في تاريخ الدولة العثمانية
  18. التميمي، عبد الجليل، الدولة العثمانية وقضية الموريسكيين، بحث منشور في المجلة التاريخية المغربية، العددان : 23-24
  19. نطقي، سليمان، محاربات بحرية عثمانية (بالتركية العثمانية)
  20. .Uzunçarşıl,İsmail Hakkı,Osmanlı Tarihi
  21. وثيقة إنجليزية تكشف كيفية سقوط غرناطة
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%88%D9%82%D9%81_%D9%85%D9%84%D9%88%D9%83_%D9%88%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D9%86_%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9_%D9%85%D9%86_%D8%B3%D9%82%D9%88%D8%B7_%D8%BA%D8%B1%D9%86%D8%A7%D8%B7%D8%A9